أعتقد بأمانة، أن السعي الحثيث الذي يقوم به بعض الكتاب الجدد، نحو كتاب آخرين قدامى، أو مخضرمين، من أجل تقديمهم للقراء، ومن ثم الفخر بما يكتبونه لهم وعنهم، من المفاهيم التي تكاد تكون تقليدية، وينبغي لها أن تلغى في موجة الكتابة الجديدة الهادرة، وذات الشخصية المختلفة، التي نطالعها هذه الأيام.
فالكاتب القديم له رؤية وتذوق خاص للكتابة، وربما لا يستطيع أن ينبهر بأشياء حديثة لا تبدو له مبهرة، وربما ينبهر، لكنه يخاف أن يبدي انبهارا قد لا يكون في محله، وربما قد يضطر لأن يكتب شيئا قد لا يعجبه شخصيا، تحت الإلحاح، ولن يكون منصفا للتجربة الجديدة، وهكذا يضيع كثير من الوقت في تقديم كتب كانت جديرة بتقديم نفسها للقراء مباشرة بدون وساطة من أحد.
طبعا لم يكن في سنوات الستينيات، والسبعينيات، وحتى نهاية التسعينيات، زحام كثير على الكتابة والتكنولوجيا التي تتبنى الكتابة، وبالتالي كان اختيار كاتب متمرس من أجل تقديم كاتب آخر جديد، يتم بترو واستعراض لما يكتبه ذلك المتمرس، ليكون من يريد أن يقدم ملما بتذوق من سيقدمه، وشهدنا في تلك الفترة كتابا كثيرين، خرجوا من تحت قلم تبناهم، ونوه بهم، سواء أن كان ذلك على غلاف الكتاب أو بمقدمة طويلة، وردت في بداية الكتاب. كذلك كانت ثمة أمنيات تداعب خيال الكاتب الجديد، أن يلتفت أحد الكتاب الذين يحبهم، إلى عمله المتواضع، وينوه به أو أن يلتقيه صدفة، ويقدمه للناس بكلمتين طيبتين. إنها طريقة كانت مجدية إلى حد ما، حيث كان القارئ في ذلك الوقت، طيبا وقنوعا، وتربى على احترام آراء كتاب مثل، الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس والطاهر وطار، ولن يعتبر تنويههم بالكتاب الجدد، مجرد مجاملة، وإنما طرح جاد سيتقبله بسهولة، لكن غالبا ما تكون الأمنيات مجرد أمنيات ولا يصادف المبتدئ إلا قليلين يتبنون أحلامه ويقدمونه، كانت هناك أيضا بعض الغطرسة الإبداعية، وكان هناك شيء مميز نفتقده اليوم، وهو عدم العثور بسهولة على مكان أو عنوان مبدع معروف من أجل الظفر منه بحديث أو وعد بتقديم عمل، أو حتى مشاركته في جلسة لشرب القهوة وتدخين سيجارة، وأذكر أنني في بداياتي، أيام كتابة الشعر، حين قرأت رواية: «فساد الأمكنة» لصبري موسى، وانبهرت بها، تمنيت لو كنت كاتبا حتى أسعى لصبري موسى ليقدمني للناس، كنت آتي من طنطا حيث أدرس، خصيصا، أزور مقاهي وسط البلد، ولم يصادفني صبري موسى طوال تلك الفترة، وحتى الآن قط. لكن بالمقابل عرفت عبد الحكيم قاسم، ومحمد مستجاب والغيطاني وكثيرين، وأيضا لم أسع ليقدمني أحد. كان الخوف من سقوط النص أمام تذوق هؤلاء يتعبني، ويجعلني أسعى بلا أي سند لأقدم نفسي.
في أحد الأيام كتبت لشاب أراد كلمة طيبة، من أجل نص عادي لم أحسه متقدما، بحيث يضيف إليّ شخصيا، وإلى منظومة الحكي نفسها، قلت له: كل ما في النص يجعله نصا، لكنني لست منبهرا، ولعل اختلاف التذوق ما جعلني غير راض. فقاطعني صاحب النص وكتب ضدي، وكان من الذين يساندون تجربتي.
أنا أقولها صراحة، وربما قلتها قبل ذلك مرات: إن تفعيل أدوار كبيرة، ومتفوقة للمبدعين الذي يحاولون تجويد إبداعهم فقط، من دون الاحتكاك بأحد، يزيد من عمليات صناعة الأصنام بشدة، ويحول كثيرين، هم في الأصل ودودون ورائعون ويحبون مساعدة الناس، إلى أشخاص آخرين لن يتمنى أحد أن يلتقيهم بعيدا عما يطالعه من إبداعهم، وأعرف من كان يحمل عصا حقيقية، يهش بها على من يقتحم عزلته المزركشة بإلإطراء الكثيف لتجربته، وهناك من يحمل صوتا طاردا، ودائما ينغلق خلف باب كان مفتوحا على مصاريعه من قبل وأغلقته شهوة السيطرة على منابت الإبداع حتى لو كان ذلك وهما.
بالنسبة لتقديم الكاتب نفسه عبر المجلات، والصفحات الثقافية، في الصحف اليومية، في بدايات الكتابة، كان الأمر أيضا صعبا للغاية، خاصة أن تلك المجلات والصفحات الثقافية، كانت محدودة العدد، بشكل كبير، ويتولى الإشراف عليها مبدعون برتب عالية في الإبداع، وصحافيون، لا يجدون المعلومات مكومة في صفحات تويتر أو فيسبوك، وتنتظر من يوقظها ويلمها، لينشرها في صحيفة، ولكن يسعون خلف آثار واهية للمعلومات حتى يعثرون عليها وربما لا يعثرون عليها على الإطلاق، لكن كان ثمة اهتمام كبير من الناس، والنص الذي يقهر كل تلك الصعوبات، وينشر في مجلة أو صفحة ثقافية، يظل محفورا في ذاكرة القراء لفترة من الزمن، ولا يضيعه من الذاكرة ألا نص آخر أكثر جدة يأتي في ما بعد. وتأتي مسألة طباعة الكتب نفسها، ولم يكن هناك أكثر تعقيدا منها، لم تكن ثقافة تمويل الكتاب موجودة ولا يحكم مسألة النشر إلا تذوق الناشر شخصيا، أو من يتولى التذوق بدلا عنه، وكان معظم الناشرين من المبدعين أصلا، وأنشأوا دور النشر دعما للإبداع. لذلك كان ديوان شعر مثل: «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، مثلا، أول مجموعة لأمل دنقل نهاية الستينيات، ونشرتها دار الآداب التي أسسها سهيل إدريس، عملا كبيرا في كل شيء من دفقة الشعر وحلاوته، إلى المعنى الملتصق بكل نص شعري، ومؤكد لن يعبر عمل شعري لا يملك تلك المقومات، ولعل دار العودة بيروت، كانت من دور النشر التي تعلن أنها تحتفي بمبدعين معينين، يقفون على عتبتها الخضراء، كان فيهم درويش وسميح القاسم وأمل جراح وغيرهم.
أعود لمسألة التقديم، التي بدأت بها: أن تقدم صوتا جديدا، يظن في كلماتك على غلاف كتابه مخرجا ما، ولا تكون في الحقيقة أكثر من كلام فائض قد لا ينتبه إليه القارئ في الأصل، وقد ينتبه إليه قارئ لا يحب تجربة من قدم العمل، وبالتالي يفر من قراءة النص الذي تم تقديمه.
لنترك النصوص تحيا وتتنفس بأرواحها الحقيقية إذن.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
كم من الكتب والروايات نسمع صداها في داخل النفس عندما نقرأها ، لِما فيها من نضوج أدبي وفكري ، ونشعر بالجهد الصحيح الذي بذله الكاتب ليعطي الرواية معنى وروح تجعلنا نتأمل ونفكر ..فليس هنالك طريق سريع ومُختصر للكتابة ولمجرد الأنتاج والرواج السريع ، فلا بد من أن تأخذ مجراها الطبيعي للوصول الى النضوج . كانت دور النشر سابقا تتفاخر بالأدباء والكُتاب الذين ينشرون عندها ولا يهمها الحصاد المالي بقدر مايهمها الأدب الراقي ، لكن للأسف الكاتب التجاري هو النموذج السائد اليوم.