تأتي «أوبة الهرطيق» كنقطة دلالة على الفن الشعري الحديث الخليجي تحديدا لجيل منفتح شعريا على تجارب منجزة عالميا وعربيا، جيل يؤكد مشروعيته في الندية والمسايرة والمناكفة أيضاً، وإذ قلت خليجيا فلأن أرض حديثنا هي عمل شعري سعودي، اكتسب نديته بتفلته من إسار قصيدة سائدة، راحت تحقق حضورا اجتماعيا براقا سميت ب ـ « النبطية» ذات إيقاع تطريبي عال وغالبا تحملها قصة وأغنية، وتتوسع أفقيا، مما جعل مهمة قصيدة حديثة، سواء تلك التي رأت في أحد تفعيلات الفراهيدي مطيتها أو التي أخلصت لقصيدة النثر، شاقة ومتطرفة إلى حد بعيد، وبالإضافة إلى اتهامها بالنخبوية، اتهاما يلامس سور تخوين صاحبها، التخوين الذي لم يسلم منه الآخرون في كل المنطقة العربية، بأن هذا الفن المسخ بحسب المتهمين، يهدف إلى تقزيم اللغة العربية وتشويهها، وبالتالي فإن مؤامرة «كونية» خلفها، على حين أنه إلى جانب ما تم ذكره فالأذن تتلقى في المشرق والمغرب العربيين هذه القصيدة أكثر من الأذن الخليجية.
لا يتفلت كتاب» أوبة الهرطيق» من مجموع العلامات الصارخة كارتكاز التي شكلت ذاكرة شعرية للمكان يتنعم بها وارد هذا الحقل، يلمح هذا في القسم الثاني من الكتاب تحديدا «سورة الأصدقاء» وورود مايقارب ال ـ 25 اسما لفاعلين إبداعيين تتقارب مشاريعهم عمرا وتجربة، «دخيل الخليفة ـ محمد النبهان ـ محمد الفوز ـ زكي الصدير ـ حسين الجفال ـ عبدالله السفر ـ محمد الدميني ـ وغيرهم»، يقرأ المتلقي من احتفاء الكتاب بها أن صاحب «أوبة الهرطيق» وإن لم يشكل تناصا مع معظمها فهو وبحكم المؤكد يعتبر التجربة/ تجربته جزءا من المنجز الذي قامت به مجموعة وليس فردا، لاعطائه أحقيته في الاستمرار والحضور، وبالتالي نقد التجربة كلية، في ما لو درست بوصفها تيارا أو ظاهرة تقترب من تشكيل النسق بحكم جدتها ومحدوديتها في المكان.
بعد «هلوسة تعتمل في فمي» كتابه الأول 2010، يسعى حسين آل دهيم إلى تأكيد صوته، كصوت يمتلك مقومات الأصالة، ويعنى باللغة ومن خلالها بالاختلاف في كتابه الثاني «أوبة الهرطيق»، تبدو هذه المشاكسة واضحة في العنونة الغرائبية لا من حيث المتضايف، إنما في المعنى «العبارة» التي يقدسها آل دهيم معرفا إياها «العبارة التي لم تقلها بعد، اجعلها طريدتك القادمة». يبشرُّ العنوان بالرجوع ولا شيء يشي به، والدلالات المتحصلة، تشير إلى الخذلان واللارجوع والانكسارات، وهو ما يمنح قارئ «أوبة الهرطيق» قدرة على تفتيح العنوان وتفكيكه لصالح العكس من «الإياب»، في نص «الهرطيق الأخير» وينهي به الشاعر قسمه الأول يقول:» تأوي إلى سخامك وحيدا، ثم تصحو باكرا، لتذهب/ كعادتك/ لأناس يبصقون على ظلّكَ/ لأنك ـ وحدك بينهم ـ الهرطيق الأخير».
يحاول حسين آل دهيم أن يكون لاعبا بالتقانات إلى جانب معرفة محمودة باللغة بضروبها وبالصياغات الشعرية لقول جملة مركبة وتشتغل داخل روحها، جملة رؤيا، مغلفة بالصوفية غير الواضحة، وجملة تفصيل، وكأن هذا التماوج، أو التأرجح، يأتي بدراية وتحسس لذلك، أو ربما من الطاقة الايجابية التي خلفها الأصدقاء في نصه تناصا أو تأثرا أو رواجا وبريقا، مما جعل آل الدهيم يتبع هذه الضوء لعله يصيبه. تحت العنوان»جنين العبارة» يكتب:» لأكونَ واضحا عليّ أن أكثف ضباب الرؤيا/ الرؤيا جنين الإشارة المكتمل/ أنحتُ قامة الشعر بإزميل اللغة/ الكلام ريح تتمدد في جسدي/ وأنا أحلبُ ضرعَهُ للفقراء».
يتطرق حسين آل دهيم في كتابه «أوبة الهرطيق» الصادر عن دار مسعى 2014 بقطع وسط امتدَّ على 87 صفحة إلى هموم مألوفة، مشغولة في ما قبل كهموم وقضايا خام، يشتغلها بطريقته، يتعالق معها من موضوعة الاختلاف التي ارتآها لتكون ديدن فعله الشعري، ولأنها مواضع ذات صبغة عمومية، فهو يصيب أحيانا وفي أحايين أخرى يقع فريسة هذا العادي/ القضية وعاديته، من كونه يشكل حضورا لا يمكن تجاهله، ففي نصه «الأكدي» يتكئ على إرث، ويتحدث عن سركون وعشتار والزقورات كما لو أنهم أهل اليوم، غائبو الفعل «أبي الأكدي الأسمر كان ينهب دروب المدينة، حجرا بعد حجر، ولايزال../ قبل التفاتة قامته نحو الشمال الشرقي، كان نمرود/ يخطُ أفلاج المدينة بضلعه الخامس على جلدة سفر التكوين». أما في قصيدة «سلمى» وقصيدة «حامد» وأعتبرهما محوريتين وحاملتين لهم الكتاب لمقاربتهما التقانة التي تنسحب على المجموعة كاملة «السرد» ومن ثم رثاء ما لا يرثى لهول فقده ولوجود الضمير «أنت» المخاطب، في قصيدة «سلمى» اقتراب محمود من السرد، بوح عال، تحضر أنت المخاطبة بقوة، تضعف السرد، وتتموه أحيانا، ليظهر المخاطب مضمرا متخفيا في جملة شعرية خالصة، تطوله كمعنى من غير الإفصاح عنه مباشرة كآخر تتجه له «أنا» الشاعر برسالتها الطويلة:» عندما تيقنتُ بأنَّ الإنسان يحيا نائما حتى ينكتب/ ليستيقظ في قصيدة، لكنه لا يستقيم في أحسن تقويم إلا إذا كتبته يدُك يا سلمى».
في قصيدة «حامد» التي بدورها لم تنج من سرد يصل المباشرة ووجود «أنت» يرفع الشاعر من شأن الأسى كصانع عظيم إلى الشعرنة لا ليحط من قدره، بل ليحفظه في محاول دحض المقولة الآخذة أنا في حالة الرثاء غالبا تغيب الفنية لصالح نبل الفكرة والشخص الُمرثى:» أنا يا حامد لا أليق للعزف ولا الرسم. أنت تعلم بأننا تقاسمنا الطريق لولوج الحلم، لكنك لسبب أجهله حاولت أن تهبني نصيبك منه، حتى عودك الذي خلفته بعدك، لم يزل يراودني في ما يرى النائم لسبب لا أعلمه».
تتفاوت اللغة بين نص وآخر، وتتدرج من الجيد برأيي إلى مادون، كما في نص «الاستهلال مزاج النص» ففي الوقت الذي يقرأ المتلقي من العنوان تلميحا إلى قصدية، يجد أن المتن لا يعدو كونه رسالة عادية لا تحقق تلك القصدية التي قرأها القارئ من العنونة.
يلف حسين آل دهيم في «أوبة الهرطيق» بخط درامي دلالي، أبدا ليس اعتباطيا أو مدرسيا ذلك التقسيم المدروس تحت عناوين ثلاثة «سيدي الشعر كان هناك ـ سورة الأصدقاء ـ تشكيل آخر لحافة الهاوية»، إذ يبدأ الكتاب بنصوص طويلة نسبيا، سردية، وتقفل بنهايات مشحونة ومتوترة، في حين في «سورة الأصدقاء»، جاءت النصوص قصيرة وتحيل كلا منها إلى اسم معين بذاته وفعله الإبداعي، وإذا جاز تسميتها بـ»الومضة» فهي خالفت شرطا من شروطها، لعدم وجود قفلة محكمة، بل بقيت نهاياتها مفتوحة كانفتاحِ الأشخاص المعنيين بها على المجهول واللامعرَّف. في «تشكيل آخر لحافة الهاوية» تتصاعد الوتيرة، تأتي العناوين من مفردة واحدة، مما لا يفسح المجال لتلق أكبر من خلالها، فيما لو لم تتعاضد مع المتن يقول:» الينبوع مارد الفانوس، لكن لا يحتاج لكف تفرك الأرض لينهض من سباته/ يد الينبوع فوق أيدي الجبل ورجليه أيضا/ من كان الينبوع صديقا له لا يتعب في البحث عن الطريق/ الينبوع نبيٌّ يصدعُ بالنهر ليموت في سرير البحر».
«أوبة الهرطيق» للشاعر السعودي حسين آل دهيم، تحتمل أكثر من قراءة، وتستحق ذلك بجدارة، حسبها أنها جاءت بلغة نظيفة ورشيقة، وتروم الاختلاف بلغتها وتقانتها التي تترواح بين السرد/ السرد وبين اللقطة الشعرية الخالصة.
كاتب سوري
محمد المطرود
أجمل القراءات تلك تجعلك تركض وراء النص في محاولة للتعرف عليه ..من النادر على المستوى العربي أن تجد ناقدا ذو “رحمة” ان صح التعبير
عادة ما يلبس الناقد دور الجلاد يغتصب النص اغتصاب و ينسى أن لكل نص زواية ذات ضوء ..ينسى أن لكل كاتب مهم كان بصيرة ما قادته إلى أبجديته
محمد المطرود قرأت و نقلت بعين الكاتب الناقد ذو الرحمة فجعلنا نشتهى الوقوع في “أوبة الهرطيق”