2015 من السنوات الحاسمة في أوروبا خلال العقدين الأخيرين، واجهت خلال هذه السنة ملفات شائكة للغاية في وضعها الداخلي مثل الإرهاب والعنصرية وصعود قوى يسارية جديدة. وتميزت علاقاتها الخارجية بالتوتر بسبب ملف اللجوء السوري وفقدان بوصلتها في الصراع الروسي- الأمريكي الجديد الذي يوحي بحرب باردة من نوع جديد.
وتناولت كتب سياسية كثيرة وتقارير متعددة التراجع التدريجي لأوروبا في صنع القرارات العالمية واستمرار بحثها عن فضاء في عالم متعدد الأقطاب تشكله الولايات المتحدة ودول البريكس. وأصبح الحديث عن هذا التراجع موضوعا مألوفا لدى مراكز التفكير الاستراتيجي، لكن اهتمام المحللين انصب على المشاكل الداخلية التي لم تفلح أوروبا في مواجهتها حتى الآن وعلى التغييرات السياسية.
العنصرية
تاريخيا، ومنذ النهضة الأوروبية، تعتبر فرنسا من صناع القرار الأوروبي والعالمي، لكن المشاكل التي تعيشها تنعكس سلبا على الخفوت وطنيا وأوروبيا بحكم أنها المحرك السياسي للقارة العجوز. بينما تحتل المانيا صفة المحرك الاقتصادي. وحضرت فرنسا خلال هذه السنة في وجه جديد مرتبط بالعنصرية.
وهكذا، فقد تميزت هذه السنة بارتفاع تاريخي للجبهة الوطنية، فإذا كانت في الماضي القريب قد دخلت إلى البرلمان الأوروبي واحتلت عمادة بعض البلديات، فخلال الانتخابات الإقليمية لرئاسة الأقاليم حصلت على المركز الأول في الجولة الأولى. وخرجت خاوية الوفاض انتخابيا في الجولة الثانية خلال كانون الاول/ديسمبر بسبب مطالبة الحزب الاشتراكي التصويت على الجمهوريين لمنع تولي الجبهة مناصب إقليمية، لكن هذا الحل لا يخفي أمرا مقلقا وهو ارتفاع الفرنسيين الذين يجعلون من هذا الحزب القوة السياسية الأولى. وإذا كان الائتلاف غير المعلن عنه بين اليسار واليمين التقليدي يجنب البلاد حتى الآن وصول الجبهة إلى سدة الحكم، يتساءل المراقبون: إلى متى ستبقى ناجحة هذه الاستراتيجية وصامدة؟
وصلت قوى اليمين القومي المتطرف إلى الحكم عبر ائتلافات خلال السنوات الماضية في أوروبا، لكن 2015 تشكل المنعطف لأنها بداية ترسيخ الجبهة الوطنية في فرنسا، فهي حصلت على أكثر من سبعة ملايين من أصوات الفرنسيين.
ونظرا لطبيعة هذا البلد كمحرك سياسي للقارة الأوروبية، فهي تشكل المنعش لهذا التوجه السياسي مستقبلا. وبدون شك، 2015 هي البداية الحقيقية نحو «أوروبا المعارضة لقيم التعايش» نتيجة انتعاش الأطروحات العنصرية التي لم تعد تكتفي بالطابع الاحتجاجي في الشارع وعند بعض المفكرين بل تتغلغل مؤسساتيا وتهدف إلى تولي الحكم.
الأزمة تعيد اليسار
والقوى الصاعدة
ويوجد مظهر آخر من مظاهر انهيار الحركات السياسية الكلاسيكية في أوروبا، ولا يقتصر الأمر فقط على ظهور اليمين القومي المتطرف بل صعود حركات يسارية جديدة تساهم في تغيير الخريطة السياسية الأوروبية.
ومن أبرز عناوين هذا التغيير ما جرى في اليونان واسبانيا. فقد فاز في الانتخابات اليونانية حزب سيريزا المنتمي إلى اليسار الراديكالي الجديد، صوت عليه الناخب اليوناني مرتين أملا في إنقاذه من هيمنة المؤسسات المالية الأوروبية والدولية التي حولت البلاد إلى مفلسة جراء ارتفاع فوائد الديون التي تتجاوز الناتج الإجمالي الخام.
وشكل فوز سيريزا بزعامة السياسي تسيبراس دعما قويا لليسار الراديكالي الأوروبي خاصة في دولة مثل اسبانيا التي أنهت سنتها السياسية على إيقاع انتخابات 20 كانون الاول/ديسمبر 2015 التي منحت لحزب بوديموس من العائلة السياسية نفسها «القوة السياسية الثالثة» التي تفزع ما يسمى «المؤسسات العميقة في اسبانيا».
ويضاف هذا الفوز إلى المنعطف التاريخي وسط اليسار البريطاني من خلال وصول جيريمي كوربين إلى الأمانة العامة لحزب العمال في هذا البلد سنة 2015. وهو الزعيم الذي يحمل أفكارا يسارية جذرية بعيدة عن تلك التي كان قد بشر بها سلفه في المنصب توني بلير. وفي القارة الأوروبية نفسها، ساهم تكتل اليسار في البرتغال في عدم بقاء اليمين في السلطة عبر ائتلاف مع الحزب الاشتراكي بزعامة أنتونيو كوستا.
كتالونيا تقود الانفصال
ويعتبر جنوب أوروبا خزانا للمشاكل في القارة العجوز، فدول الجنوب لا تعيش فقط أزمات اقتصادية ضربت مفهوم الرفاه أو تسجل ظهور قوى يسارية صاعدة تخيف المؤسسات المالية بل تحمل معها شبح الانفصال وخطر تفتيت دول أوروبية عبر إنعاش القوميات. لم يتابع الأوروبيون سنة 2015 أمجاد فريق برشلونة الكتالاني بل تخوف الاتحاد الأوروبي من انفصال الإقليم عن اسبانيا ونقل العدوى إلى باقي إثنيات القارة في بلجيكا وكورسيكا واسكوتلندا مجددا. شهدت كتالونيا يوم 27 ايلول/سبتمبر 2015 انتخابات الحكم الذاتي التي فازت فيها الأحزاب القومية الداعية إلى استقلال الاقليم عن كتالونيا والإعلان عن دولة جديدة تكون فاصلة بين فرنسا واسبانيا. وعمليا، حدد البرلمان الكتالاني منتصف 2017 بداية إعلان الدولة الجديدة.
وتعتبر كتالونيا من عناوين الوضع السياسي الأوروبي سنة 2015، فهي ستطبع مستقبل مطالب الاثنيات أو الشعوب ذات الخصوصيات المتميزة في القارة الأوروبية.
الاستفتاء البريطاني
لم تخلف الانتخابات البريطانية سنة 2015 استمرار حزب المحافظين في السلطة، بل حملت معها تطورا يزيد من إضعاف القارة الأوروبية وهو استفتاء البقاء أو مغادرة الاتحاد الأوروبي الذي طرحه رئيس الحكومة ديفيد كاميرون. ويربط كاميرون بقاء بريطانيا وسط العائلة الأوروبية بشروط منها وقف الهجرة الأوروبية نحو بريطانيا وحرمان الأوروبيين من المساعدات الاجتماعية خلال الأربع سنوات الأولى لإقامتهم في هذا البلد.
وتخلف شروط لندن جدلا وسط الاتحاد الأوروبي بين من يقول بقبولها ومن يتمنى مغادرة بريطانيا للاتحاد بسبب عرقلتها بناء أوروبا وميلها الأبدي إلى الولايات المتحدة.
وعمليا، ومنذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في بداية السبعينات والذي كان يسمى السوق الأوروبية المشتركة، لم تساهم بريطانيا في تعزيز هذا التجمع الذي يهدف إلى التحول إلى مركز للعالم في تنافس مع الولايات المتحدة وروسيا. فقد عارضت سياسة خارجية موحدة وامتنعت عن الانضمام إلى العملة الموحدة وفضلت الابتعاد عن البرامج العسكرية للاتحاد الأوروبي. والآن تهدد باستفتاء مغادرة الاتحاد في أسوأ الفترات التي يمر منها هذا الأخير.
اللجوء السوري
استيقظ العالم وأوروبا خاصة يوم 2 ايلول/سبتمبر 2015 على صورة الطفل السوري إيلان كرجي البالغ من العمر ثلاث سنوات والأمواج تتقاذفه في سواحل تركيا بعدما غرق القارب الذي كان يقله رفقة شقيقه وأمه وعشرات المهاجرين. صورة الطفل كانت كافية لتحرك أوروبا، الرأي العام ووسائل الإعلام والزعماء الحكوميين والتاريخيين. وقررت أوروبا فتح الباب مؤقتا لاستقبال السوريين الهاربين من مطرقة داعش وسندان نظام بشار الأسد، وشكلت المانيا النموذج الحقيقي في هذا التوجه الإنساني، الأمر الذي جعل المستشارة أنغيلا ميركل تتعرض لانتقادات صادرة عن اليمين المتطرف وكذلك عن أعضاء في حكومتها.
لم يستغرق الكرم الأوروبي كثيرا في استقبال السوريين رغم اعترافهم بأنهم أمام أكبر موجة من اللاجئين منذ الحرب العالمية الثانية وتجاوزت موجة النازحين واللاجئين إبان الحروب الإثنية في البوسنة والهرسك وكوسوفو. لكن الأوروبيين يردون بأنهم كانوا أكثر كرما من الدول العربية في استقبالها للاجئين السوريين الذين هم عرب كذلك.
المشاكل نفسها في أجندة 2016
الأحداث التي عاشتها أوروبا خلال سنة 2015 لن تنتهي مع 31 كانون الاول/ديسمبر من السنة نفسها بل ستحضر مجددا سنة 2016، وتشير كل المعطيات إلى ارتفاع تأثيراتها. ملف العنصرية سيتفاقم في فرنسا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، وسترتفع أعداد اللاجئين الذين يدقون أبواب أوروبا بسبب استمرار الملف السوري وخطورة الملف الليبي القابل للاشتعال بشكل أكبر. ولم يهدأ بال الكتالان حتى يمهدوا لدولتهم سنة 2016، وستقوي الأحزاب الصاعدة من حضورها بهدف تغيير الممارسة السياسية في القارة العجوز. ووسط كل هذا، ستستمر بريطانيا في التلويح بالانفصال لتزيد من ضعف قارة فقدت بوصلتها في عالم متعدد الأقطاب لا فضاء كبيرا فيه لأوروبا المريضة.
had
حسين مجدوبي