هي إحدى كلمات جبران خليل جبران، الذي كان خيطاً رفيعاً بين الشرق والغرب ومزيحاً لا ينفصل بين الحضارتين العربية والغربية.
جبران الذي احتفى به العرب، احتفى به أيضاً الغربيون الذين شبهوه بشكسبير وبغيره من نجوم الشعر والأدب. وردت العبارة في كتاب جبران الأشهر «النبي»، وهو الكتاب الذي حمل الكثير من الأشعار والخواطر، والذي كتب بلغة إنكليزية رفيعة في مغترب جبران الذي اختارته العائلة.. أمريكا. هنا تظهر الولايات المتحدة بوجهها الجميل.. أمريكا التي تصنع الحلم والتي توفر الفرصة للمواهب المختلفة، والتي تضيف إلى العالم كل يوم ألواناً جديدة في مختلف ضروب الإبداع.
اعتبر بعض القراء في البداية أن جبران في هذا الكتاب قد ادعى النبوة، وهذا صحيح من الناحية اللغوية البلاغية، وغير صحيح من الناحية التجديفية، بمعنى أن جبران كان نبياً على طريقة أبي الطيب المتنبي، الذي لم يحدث أن اتهم بالزندقة والكفر في عصره. كانت النبوة أو النبوءة بالأحرى هي نبوءة الشعر ونبوءة الإلهام الذي يجعلك تنفذ إلى ما لا يستطيع غيرك النفاذ إليه.
في هذه العبارة القصيرة وما يليها من عبارات يسائل جبران المجتمع العربي التقليدي ويناقش العلاقة بين الآباء والأبناء، منتقداً المفهوم العربي الذي يجعل من الأبناء تبعاً للآباء وصورة لهم، لكنه ينتقد في الوقت ذاته المفهوم الغربي، الذي يخلق انفصالاً تاماً بين الآباء والأبناء، وإن كان يوجه أغلب سهامه لطريقة التفكير المجتمعية العربية، التي تجعل الوالد يظن أنه قد أسدى معروفاً إلى أبنائه بأن جاء بهم إلى هذه الحياة وأن عليهم أن يشكروه على ذلك طوال عمرهم. ربما بدا جبران هنا متطرفاً، وربما عاد ذلك لتنشئته الاجتماعية التي ستلقي ظلالها عليه لسنوات طويلة، فأمه كانت شابة في الثلاثين في حين كان والده هو زوجها الثالث، الذي لم تحيى معه حياة طيبة بسبب عدم اكتراثه بالعائلة وأنانيته وحبه للشراب، الذي كان يجعله يضيع ميزانية العائلة في شراء الخمور.
إدمان الخمر هو ما كان يجعل والده عصبياً، وكان لا يمكن للصبي جبران تخيل صورة والده إلا وهو سيئ المزاج، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، حيث تم توقيف الوالد بتهمة الاختلاس ليقضي عقوبة السجن لسنوات. برفقة والدته وإخوته وخاله وجد جبران الذي كان وقتها في الثامنة من عمره نفسه مهاجراً إلى الولايات المتحدة.. ذلك العالم الغريب الذي لم يكن يعرف عنه شيئاً، والذي سيحتضنه ويعوضه عما كان يعانيه من فقر وألم على مستوى العائلة والمجتمع. ربما يمكن فهم عبارة جبران على نحو آخر، وهو أن مجرد العملية البيولوجية (الولادة) غير كفيلة بخلق علاقة حب أسرية، والأمر قد يصح أيضاً عند الحديث عن علاقة الزوج بزوجته، حيث أن مجرد كونه رجلاً أو ذكراً قد لا يكفي لخلق علاقة انسجام ومودة واحترام، حتى لو أضاف إليها أنه الممول الاقتصادي الوحيد للحياة المنزلية. ربما يكون صاحب العبارة قد تأثر هنا بالفلسفة الغربية التي نضجت أكثر في السنوات التالية، والتي باتت تضمن حياة كريمة لكل طفل وتعليم مجاني ورعاية صحية، وهو ما سيرسخ أكثر في تشريعات ما بعد الحروب العالمية مع أوروبا الحديثة، التي انتصر فيها صوت الأجيال الجديدة التي لم تعد تقبل تلك العبارات القديمة التي كان يصدرها آباء تقليديون، والتي يمنون فيها على أبنائهم بأنهم قاموا بدفع مصاريف دراستهم وأنهم أعالوهم وقدموا لهم الطعام واللباس والعلاج.
في التشريع الجديد صار لكل طفل راتب قد يفوق ما كان يمكن لأب متوسط الحال أن ينفقه على أبنائه، بل أن بعض الأسر حالياً تعتمد على أطفالها في تمويل ميزانية البيت عن طريق زيادة عدد المواليد بما يضمن حياة مرفهة للوالدين. هنا لا يمكن للوالد أن يتكئ على مقولة «إنني صرفت عليك» القديمة ولا يبق أمامه سوى زرع الحب والحب فقط حتى يحصد علاقة إيجابية مع أولاده وزوجته المستقلة اقتصادياً أو التي تتكفل الدولة بنفقاتها فلا تصبح مجبرة على البقاء مع من لا يحترمها ولا يقدرها، بل لا يبقيها شيء سوى الحب والمودة. لقد التقط جبران درس أوروبا الجديدة وحاول نقله كوصايا عبر كلماته، أن يكون الحب هو الصلة التي تربط بين أفراد المجتمع وليس مجرد الإجبار أو المجاملة أو القيود التي وضعها الأجداد.
ما أتفق فيه مع هذا الطرح هو أن الحب بين الوالد وولده ليس شيئاً بدهياً، فهو إن كان القاعدة الفطرية الغالبة، إلا أن هناك من الظواهر والمستجدات ما يفرض وجود رقابة مجتمعية وسلطة أقوى من سلطة الأب والأم التي كانت لا تقاوم. لقد سمح للطفل بالاتصال بالشرطة في حالات الاستغلال والتعذيب، لأنه وجدت فعلاً حالات للاستغلال والتعذيب العائلي والتحرش، الذي قد يصل إلى الاغتصاب، وهذا ليس فقط في العواصم الغربية التي تتفشى فيها الخمور والمخدرات، بل هو أمر صارت لا تكاد تخلو منه مدينة في الشرق أو الغرب. المشكلة أننا وضعنا قوانيننا للحالات الطبيعية المثلى التي يكون فيها الأب والأم هم الأقرب إلى ابنهما، لكننا لم ننتبه للحالات التي قد يشكل فيها الآباء خطراً على حياة أبنائهم، وما يزال البسطاء يعتبرون أن من حق رب الأسرة أن يفعل بأهل بيته ما يشاء، وأنه لا يحق لأحد أن يتدخل سواء كان من العامة أو من ممثلي السلطة، بل أن القوانين في معظم البلاد العربية تجد العذر لمن يقتل ابنه، وخاصة ابنته، وتجتهد في إيجاد تفسير لذلك ضمن عناوين مضللة متناقضة كـ»جرائم الشرف» مثلاً.
السياق الأوروبي الذي يعتبر أن الأبناء هم أمانة عند أهلهم، وأنهم في حال لم يحافظوا عليها فإن بإمكانهم أن يفقدوها، هو سياق متصل ينفي التقديس عن الأب، كما ينفي التقديس عن الأستاذ الذي يجوز نقده والحاكم الذي تجوز مراجعته ومعارضة اجتهاداته. ذلك هو بالضبط ما يناقض سياقنا العربي الذي لا يقبل مراجعة الأب ولا الأستاذ ولا الحاكم، والذي يجعلنا نحمل تربية الصمت المنزلي إبان الطفولة، ثم عدم التفكير خلال الفترة الدراسية، ثم قابلية الديكتاتـــورية وحكم الفرد حين نخرج للحياة. حين نتحدث عن العائلة المثالية كما ندرسها، وكما تصفها لنا عبارات الحكماء، فنحن نتحدث عن عائلة يكون الرجل هو القائم فيها بأعمال الأسرة والمتصــــرف في شؤونها، لكن ذلك يخالف ما نراه في واقعنا من عائلات معتمدة على نسائها، ورجال هم أبعد ما يكونون عن الرجولة والمسؤولية، وأخوة لا يجدون حرجاً في أن تعيلهم أخواتهم، لكنهم يتشدقون في الوقت ذاته بعبارة «القوامة» المقدسة التي فقدت سياقها.
بقي أن أقول إنه لا يمكن الجزم بأننا قد أحطنا بما كان يريد جبران إيصاله، حيث تبقى عبارات الشاعر كلوحة الفنان التي يمكن لكل من يمر بجانبها أن يراها بشكل مختلف، ومن هنا جمال الفن والكلمات. هنا أختم بهذه الفقرة من كلمات جبران التي يمكنها أن تلخص الكثير:
«أولادكم ليسوا أولاداً لكم، إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، فهم بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم، ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم، فأنتم تستطيعون منحهم محبتكم ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكارهم الخاصة.
بقدرتكم صنع مساكن أجسادهم، لكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم، فهي تقطن مسكن الغد الذي لا تستطيعون زيارته حتى ولا في أحلامكم، حتى لو جاهدتم لتصيروا مثلهم، وعبثاً تحاولون أن تجعلوهم مثلكم لأن الحياة لا ترجع للوراء ولا تلذ لها الإقامة في منازل الأمس».
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
نعم. أتفق مع الدكتور. نحن العرب علينا أن نعيد النظر في كثير من الأمور فيما يتعلق بطرق تربيتنا لأولادنا و نظرتنا اليهم فهم ولدوا لزمان غير زماننا. وجبران كان عبقريا من عباقرة اللغة و نال احترام العرب و الغرب معا.شكرا على المقال. استمتعت حقا بقراءته.
الشرق يتعامل مع الابناء كمشروع استثماري فهم ملك لك لكي ينفقوا عليك ويرعوك في كبرك ويدعوا لك بعد الموت.. بعكس الغرب الذي يفصل الابن بعد ان ينضج ليبحث عن طريقه وحياته التي يريدها والامر فعلا يحتاج لمعادلة والموضوع محفز للتفكير فيه..شكرا دكتور مدى.