«أنا الدولة» هذه عبارة لم يقلها لويس الرابع عشر، ومع ذلك بقيت تلازمه بين كثير من المؤرخين المحترفين والمثقفين والعامة، ببساطة حتى لو يقلها الملك الشمس، كما أوحى لمنافقيه بوصفه، فجميع تصرفاته كانت تعبر عنها، فالملك الذي أخذ يبحث عن مجده الشخصي، اعتبر أولوياته الشخصية بمثابة واجبات مقدسة يجب على الدولة تنفيذها، وقصر فرساي الشهير والمكلف جداً، لدرجة تشغيل أربعين ألف عامل على مدار الساعة، يبقى شاهداً على عصر لويس الرابع عشر.
بالطبع ما زال الزعماء والرؤساء والقادة يبحثون عن مجدهم الشخصي، ولكن في مجتمعات حية وناهضة، فإن المجد الذي يمكن أن يحققه الرئيس يجب أن يكون قائماً على رغبة شعبية أو أن يسفر عن مكاسب شعبية كثيرة، ففي لحظة معينة بدت الفترة الرئاسية الأخيرة منتهية مبكراً مع تحقيق الرئيس أوباما لمشروع التأمين الصحي الذي يعرف اليوم في الأدبيات الأمريكية بأوباما كير، بالطبع لا يطمح أوباما إلى أن توضع صورته على أي فئة للدولار الأمريكي، وفي أقصى تقدير بعد سنوات ربما بعيدة قد تطلق إحدى الولايات اسمه على مطار محلي صغير.
عادة ما تكون المنجزات لدى أي قائد في بلد متقدم مرتبطة بمجموعة من القوانين والقرارات، لذلك، فبريطانيا ما زالت تكرر مقولة «عصر ثاتشر»، بينما لا يمكن لغير المتخصصين بالسياسة وهواة الكلمات المتقاطعة أن يتذكروا أسماء رؤساء الوزارات الذين تبعوها في 10 داوننج ستريت، وبذلك فإن أحداً لا يمكنه مثلاً أن يربط نفق المانش الذي يربط بريطانيا بالقارة الأوروبية بعصر ثاتشر حصراً، فمشاريع البنية التحتية ومهما كانت ضخامتها تصبح في النهاية جزءاً من الحراك الاجتماعي الاقتصادي، وتمثيلاً لاستمرارية وكفاءة الإدارة العامة والأطر القانونية والتشريعية التي توفر لها بيئة العمل المناسبة، ففي النهاية لا يمكن لأي سياسي أمريكي أو بريطاني أو ألماني أن يعتبر مشاريع المطارات أو القطارات أو الشوارع أو حتى الجامعات، بمثابة منجزات شخصية لأي سياسي أو حزب أو جماعة.
في الشرق السعيد، كان الجنرال أحمد شفيق يترشح لرئاسة الجمهورية وهو يرفع شعار إنجاز المبنى الثالث لمطار القاهرة، دليلاً على كفاءته، وبغض النظر عن مشكلات مطار القاهرة وغيره من المطارات المصرية، فإن شفيق تعامل مع مشروع المطار الذي كان في موقع المسؤولية أثناء تنفيذه بوصفه منجزاً شخصياً، وليس مشروعاً قومياً ضرورياً كان يجب أن ينجز لاستيعاب حركة السفر المتزايدة والمدفوعة بالنمو السكاني وانتعاش القطاعات السياحية.
المنجزات ذات الطابع المادي كانت دائماً هوساً لدى القادة في العصور القديمة والوسيطة، ولذلك كان الفراعنة يبنون الأهرام، والرومان يتفنون في بناء المسارح الكبيرة، وبينما استيقظ العالم من هذه المراهقة المكلفة، فإن الشرق، والشرق العربي تحديداً، بقي في إسارها وما زال إلى اليوم، ولا تبدو ثمة استفاقة قريبة، حتى أن طريقة تصدير المنجزات للشعوب تبدو على جانب كبير من التضليل، فقناة السويس التي ينظر لها بوصفها إنجازاً مهماً تسببت خلال بضعة عقود في تقويض مصر كمنطقة تبادل تجاري حيوية، ومعها موانئ مهمة في شرق المتوسط، فالتجارة الأوروبية مع شرق أفريقيا وآسيا لم تكن جميعها تعبر برأس الرجاء الصالح، ولكن كان يجري تفريغها في دمياط ويافا وحيفا، بحيث يستفيد التجار المحليون والوسطاء بجانب العوائد الجمركية والضريبية، بينما أصبحت القناة مجرد معبر سريع ومختصر لا يفيد المنطقة من حركة التجارة التي تعبره.
تصبح المكتبة العامة الكبيرة هبةً من الزعيم، والاستاد الرياضي تفضلاً منه، بينما يكون المطار كافياً لتحصينه ضد أي نقد، مع أن كل هذه المرافق هي جزء من البنية التحتية التي أصبحت تعتبر من نافلة القول في أي مكان في العالم، وفي العقد السابع من مرحلة الاستقلال ما زالت البنية التحتية تمثل سؤالاً مرهقاً في الدول العربية، والحديث عن البنية التحتية شاغلاً يومياً لرؤساء كثير من الدول العربية، مع أنه من المفترض أن تنتقل هذه المهام إلى مسؤولية وحدات محلية مثل البلديات ومجالس المدن، وعلى الرئيس أن يقوم بحماية المؤسسات وتعزيزها، لا أن يستولي على تحديد الأولويات والبحث عن المنجزات الملموسة التي ترتبط به شخصياً، مع أن كثيراً منها لا يعتبر من المتطلبات الشعبية، ولا يراه أحد ضمن الأولويات.
وظيفة الرئيس أن يصون المؤسسات مثل مجالس النواب والقضاء، وأن يحترمها، وفي هذه الحالة فإن المؤسسات ستعمل على ترتيب أولوياتها بغض النظر عن شخصية أو توجه القيادة السياسية، فوجود أي قائد ليتفقد المستشفيات العامة أو يطلع على أعمال الإنشاءات في الأنفاق والجسور لا يضيف لرصيده شيئاً، المفروض أنه ينتقص من المؤسسات ويهمشها ويجعلها أدوات متاحة لدى الرئيس يقوم على توجيهها وفق ارادته، فتوسعة قناة السويس مثلاً، أتت في ظل تغيب مجلس النواب المصري كلياً، وبقرار من مؤسسة الرئاسة، تماماً كما كان قرار تأميم قناة السويس في عصر عبد الناصر، فهذه القرارات لا يمكن أن تتخذ من الرئيس وفريقه لوحدهم، والمشكلة لم تكن في العدوان الثلاثي الإجرامي وحده، ولكن في تصوير مصر في موقع المنتصر بعد العدوان، بحيث أصبحت المحافظة على عبد الناصر ونظامه هي الانتصار، وبذلك رأى البعث السوري نفسه منتصراً بعد حرب يونيو، لأن اسرائيل لم تتمكن من تحقيق هدفها في إسقاط القيادة الملهمة، وعليه فبقاء البعث يعتبر انتصاراً، وبذلك كان صدام يقدم نفسه للعراقيين بعد هزيمته في حرب الخليج الثانية.
خرجت الثورات العربية من أجل أن يتدخل الناس في صناعة مصيرهم، من أجل أن يقولوا كلمتهم، ليكون الرئيس أو القائد مجرد موظف يمتلك قدراً من الرمزية التمثيلية لشعبه، لا أن يكون إرادة ومشيئة لا يمكن الاعتراض عليها أو الوقوف ضدها، وبعد شهور قليلة كانت النتيجة في إعادة إنتاج النموذج نفسه، وبدأت حملات الإنجازات السريعة تصبح أسلوباً للمشاغلة الإعلامية وتسخير الجمهور في معركة غير عقلانية تستحث المشاعر البدائية في داخلهم، المشاعر المصطخبة نفسها التي أدركت الإمبراطورية الرومانية ضرورة وضعها في إطار المسرح وإشغالها بمعارك المجالدين والحيوانات المفترسة، تشذيب عقلي جماعي، فيصبح الهرم والــــبرج والنفق والمطار بمثابة أصنام صغيرة يتوجب عليك كمواطن عربي أن تقف أمامها بكل خشوع واتضاع، فهي الأدلة على النجاح حتى لو كنت تمولها من جيبك ومن لقمة عيشك، وفوق ذلك، لم يقم أحد بمجرد استشارتك قبل إنشائها.
قبل أسابيع كانت بعض الإعلانات تنتشر في لندن حول تحديثات مطلوبة لمطار هيثرو، وكانت تمثل حملة لجمع التأييد للمشروع، فالقرار لا يمكن أن يتخذه الوزراء لوحدهم، ويجب أن توجد قناعة شعبية كاملة بضرورته وأولويته على مشاريع أخرى مثل زيادة عدد المدارس في منطقة أخرى من لندن، وبذلك يمكن أن نخترع أسلوباً عربياً جديداً لقياس تكلفة الفرصة البديلة، أو حركة الهدر في المجتمعات العربية، بحيث يتم تحويل أي مشروع كبير لعدد من المدارس والمستشفيات وبناء على ذلك سيدرك المواطنون قبل أن يتهللوا للإنجازات التي يفتتحها القادة والرؤساء إلى مدى خسارتهم التي تكبدوها بعدم توفر مدرسة مناسبة لأبنائهم أو مستشفى يمكن أن يتعامل مع لحظات مرضهم وعجزهم بطريقة مهنية وإنسانية.
ثارت قبل فترة ليست بالبعيدة مقولة الدولة العميقة، وبدأت نظريات كثيرة تتحدث عنها وتصفها، وفي الحقيقة، فذلك ليس أكثر من رياضة ذهنية لا تعكس نفسها على الأرض، فجميع الدول العربية سطحية للغاية، هشة وبدون عمق مؤسسي، ولذلك فإن جميع الجماهير العربية وقفت بعد ثوراتها لتجد نفسها على أطلال أساطير وأكاذيب بعضها لم يكن حتى متقن الصنعة.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق
مقال ممتاز ولكن يبدو ان له بقية للتفصيل في مقولة الدولة العميقة فان لها جوانب اخرى
تسعد بقراءة هذا المقال، فبالاضافة للعمق في تناول موضوع مهم كمعنى القيادة، هناك اللغة العذبة والصياغة اللغوية الجميلة. اهنئ الكاتب على موهبته. على ان موضوع الدولة العميقة نفهم منه الصفة السلبية للفساد المركب والمنتفعين منه وليس المعنى الايجابي للعمق..