كنت أدرك جيدا أن موقفي من «الأنواع الروائية» سيثير حفيظة البعض لأنه يختلف عن التصور السائد، الذي يدافع عنه أغلب من يكتب رواية، لأنه يجنب الروائي التفكير في النوع الروائي الذي يكتب فيه، وينطلق في إنتاجه إياه من قواعد محددة بعناية ودقة وحرفية. وفعلا وصلتني بعض الردود التي تؤكد تلك الحفيظة. إني أحترم أصحاب وجهة النظر التي لا تريد التقيد بالقواعد، أو إقامة ميثاق للقراءة.
لكن ما معنى أن النص مفتوح، وأن الكاتب يكتب كما يشاء من دون التقيد بقواعد النوع؟ عندما نفكر في الجواب عن هذه الأسئلة يتبين لنا أن هناك التباسا محددا يسم التصور الذي ينطلق منه البعض في الكتابة. فالأدب، باعتباره جنسا عاما لا وجود له إلا من خلال أجناس خاصة. ومن هنا جاء التمييز بين الشاعر والكاتب، وأي شاعر أو كاتب لا يمكنه إلا أن ينجز إبداعه ضمن أنواع شعرية أو كتابية. وكل نوع عندما يتطور الإبداع فيه، وتتعدد أنواعه الفرعية، لا يصبح له أي معنى من دون الانخراط في الكتابة ضمن أحد أنواعه الفرعية.
لا أحد يمكنه أن يفرض على الكاتب الخوض في نوع معين، فحرية الكاتب لا حدود لها، لكن ما يمكن الذهاب إليه في هذا الصدد لمن يريد الخروج على قواعد نوع معين، أن يؤسس لقواعد جديدة، تصبح بدورها قابلة للخرق مع الزمان، وهنا خصوبة الإبداع.
عندما ابتدع بديع الزمان الهمذاني «المقامة» نوعا سرديا، كانت أمامه أنواع سردية كثيرة، شفاهية وكتابية. ولعل أهم ما قام به، هو أنه استفاد من قواعد أنواع متعددة تذهب من الحديث إلى الخبر والنادرة، وحاول صياغتها في بنية سردية ذات قواعد محدودة، فكان أن صار النوع الذي ابتدعه «نموذجا» سار عليه الكتاب في مختلف العصور. ويمكن قول الشيء نفسه عن الرواية إبان ظهورها. لقد جاءت لتحطم قاعدة جوهرية في الكتابة السردية المعترف بها، وهي بناء المادة الحكائية على أوزان وقواف، فنقلت بذلك العمل السردي من قيود «الشعر» إلى رحابة النثر. ولقد أثر هذا التحويل على بناء الرواية، فصارت شخصياتها واقعية وأحداثها متصلة بالحياة. وعندما ظهرت رواية الخيال العلمي، جعلت الشخصيات والأحداث مختلفة عما نجدها في الرواية الواقعية مثلا. ويمكن ان نعدد الأمثلة على كل نوع، وما هي إضافاته والقواعد الجديدة التي يأتي بها، وهو يخرق قواعد أنواع أخرى، موسعا بذلك دائرة الإبداع فاتحا إياه على مسافات متعددة.
إن الحديث عن تحطيم الحدود ليس له من معنى غير خلق حدود جديدة، وإلا كانت الفوضى، فالكاتب الذي ليست عنده صورة عن النوع الذي يكتب فيه، قد يزاوج بين أنواع متعددة، أو يغلّب نوعا على آخر، فلا نكون إلا أمام الاضطراب، وبذلك تغيب خصوصية الإبداع. لكن الرواية الغربية التي نتخذها، بشكل أو بآخر، نموذجا للرواية، وإن ادعى صاحبها أنه لا يكتبها وفق قواعد نوع معين، نجدها تنخرط في أحد الأنواع الروائية. صحيح قد لا يشدد بعض الكتاب على «نوعية» روايته في أحد «مُناصات» النص أو عتباته، ولكن يمكننا تلمس ذلك من مطلع الرواية. تماما كما نجد في الفيلم السينمائي الغربي، حيث نبدأ معه في عقد ميثاق التواصل من خلال الشخصيات والديكور منذ البداية، فنتبين هل نحن أمام فنتازيا، أو رواية حقيقية، أو تاريخية، أو بوليسية.
اندراج كتابة روائي معين ضمن نوع محدد لا يعني تضييق مسافة حريته، بجعله يخضع لقواعد معينة لنوع محدد، بل على العكس من ذلك، يمكن اعتبار «التقيد» بقواعد نوع معين هي الدالة على قدرة الكاتب وإبداعيته وعبقريته. كم من الشعراء العرب القدامى كتب في غرض «المدح»؟ يمكن اعتبار قصيدة المدح هي النوع المهيمن في الشعر العربي مع تأسيس الدولة وتطورها. لكننا في مجلس واحد تلُقى فيه عدة قصائد في المدح، نجد شاعرا يبز كل الشعراء في النوع نفسه، فيحصل على مكافأة لا يظفر بها غيره من الشعراء. ألا ترى أننا الآن نقرأ الآن مدائح أبي تمام، والمتنبي وأضرابهما من الشعراء الكبار، فنجد أنفسنا أمام إبداع حقيقي. ويمكن قول الشيء نفسه عن الرواية التاريخية والبوليسية، فحبكة الرواية البوليسية واحدة، لكننا عندما نقرأ روايات أو نشاهد أفلاما مستوحاة من روايات بوليسية، نلمس الفروق بين الكتاب والمخرجين، فتبرز لنا الإبداعية الكبيرة لهذا، والإبداعية المحدودة لذاك. إذا عدنا إلى الشعر العربي الحديث سنجد أنه ظل يفرض وجوده ما دام «مقيدا» بأنواع محددة، أو تجديده لأنواع قديمة. لكنه ما إن كسر قواعد النوع، وصار الحديث عن تحطيم اللغة، وما شابه هذا من الأقوال التي انتشرت بـ»لغة» مبهمة، حتى بدأ يتداعى، فصرنا ندخل «عالم» القصيدة بدون بوصلة، ولا ميثاق؟ فلا نعرف حتى ما هو «موضوع» القصيدة. ويدفعنا هذا إلى التساؤل لماذا نجح نزار قباني ودرويش فيما فشل فيه غيرهما؟ إبداعية الرواية لا تقيدها حدود النوع بل إنها تكمن في نوعيتها.
سعيد يقطين
رائع…ومصيب القول بل كنت أستاذاً تجيد البيان بصدق اللفظ وعمق المعنى بشأن الإبداع الروائي ؛ بكلمات مكثفة لكنها عميقة كاشفة ؛ للعوام وللخواص من المهتمين بشؤون الروائية العربية الحديثة..,وهي مقالة لتأسيس جديد أصول الرواية :{ وفوق كلّ ذي علم ؛ عليم }( يوسف 76).
بسم الله الرحمان الرحيم
تحية لأستاذنا الكريم.
لكم جزيل الشكر أن أثرتم فضية النوع في الأدب . وما أثار انتباهنا ههنا هو اشارتكم في المقال السابق إلى كون النوع أعم من الجنس.فإذا انطلقنا من هذا الحكم قلنا إن الرواية يمكننا ادراجها في الأدب باعتبارها جنسا لا نوعا أدبيا.لم؟
نعلم يقينا أن الادب ينقسم إلى إبداع ونقد،وعنهما تتفرع أنواع أدبية .فمن الابداع يتفرع نوعا الشعر والنثر،ومن النقد والدراسة أنواع شتى من المناهج .وعن النثر مثلا تتفرع أجناس أدبية كالرواية والمقامة الحكاية وغيرها.
وهكذا يمكننا القول إن الرواية يمكن اعتبارها جنسا أدبيا أخدا بعمومية النوع على الجنس.
لك مني ألف تحية وتحية
الأستاذ سعيد يقطين المحترم :-
ألا ترى أن الخروج عن المؤسسة التجنيسية بؤطرها المحددة يعدُّ كسراً للمألوف والسائد .. لكن ليس كل رواية تحاول كسر ذلك المألوف المحدد بقواعد محددة يعدُّ تقعيدا لقواعد جديد ينادي بها الآخرين للألتزام بها ، وعليه فأن كل رواية تحاول الكتابة بآليات وتقنيات حديثة يكون لها شكلها الثابت الذي أبتدعه المؤلف أو الروائي يمكن أن تقع ضمن الحداثة أو ما بعد الحدثة وذلك بتكوين عوالم غير ممكنة عبر التخييل أو خيال الروائي وعبارة أو مفهوم ( النص المفتوح ) هو مفهوم فلسفي ، نحن لا نفسر العالم كما يجب أن يكون عالماً حقيقيا أو واقعيا أو منطقياً ، بل أن مفهوم ( النص المفتوح ) نقوم ببناء عالم أو عوالم غير ممكنة وبهذا فأن الرواية الجديدة تقدم رؤيتها الخاصة على أن العالم الحقيقيى الذي نراه واقعيا هو عالم غير مكتمل ، وكل العوالم هي ناقصة .. من هنا تأتي أهمية المتلقي الذي يقوم ببناء هذا العالم غير المكتمل من جديد حسب رؤيته الخاصة . وهذا ما يقرب الرواية التي يريدونها اصحاب هذه الجوائز قريبة كل القرب من كتابة السيناريو القائم على الخير والشر …… مع المودة .