لسنوات طويلة أسمع هذا السؤال. ما رأيك في موقف المثقفين؟ بالضبط قبل التسعينيات حين كانت الميديا محدودة بالقنوات المحلية والرسمية في البلاد، كان السؤال يمكن أن يمر لأنه كان محصورا بين المثقفين أنفسهم والقراء والمشاهدين، الذين لم يكونوا بهذه الكثافة بعد أن اتسعت الميديا وصارت هناك عشرات من القنوات التلفزيونية، يشاهدها الناس في كل مكان. السؤال الآن يتردد أكثر من ذي قبل. أجده تقريبا في كل حوار معي أو مع غيري، وأجده بكثافة في برامج «التوك شو» التلفزيونية والإذاعية. وفي كل مرة ابتسم متوقعا السؤال، ولا يخيب ظني مادام الموضوع دخل في السياسة أو في القضايا الاجتماعية. وفي أكثر من حوار كنت أقول لمن هو أمامي ماذا تعني بالمثقفين؟ وطبعا كان يلتزم الصمت أو يقول كلاما من نوع الكتاب والمفكرين والأدباء الخ.
وفي برامج «التوك شو» حيث انتشر صحافيون كبار ومثقفون يقومون بدور المذيع يسألون أيضا هذا السؤال . أدمنوا السؤال لدرجـــة تشـــعرك بأن هناك متعـــــة في إدانة المثقـــفين. وصرت أنا أيضا مدمنا على سؤالي لهم أو لغيرهم عمن هم المثقفون.
ثم أقول للمحاور أو السائل أرجو أن تستثني المبدعين من السؤال. ليس لأنهم غير مثقفين، لكن لأنهم في الأصل غير متوافقين مع المجتمع ولا السلطة ولا الحياة من حولهم. هم ليسوا مناضلين ولا رجال أحزاب يأخذون مواقف محددة، لكنهم يبدعون أعمالهم الشعرية والقصصية وغيرها من أجناس الإبداع، بحثا عن الصورة الفنية وعن الشخصيات القلقة. هم أقرب إلى الهامش.
باختصار العالم دائما أصغر من المبدع والفنان وبعضهم يهجره ويتمكن منه الهجر فلا يكتب أيضا وأحيانا ينتحر! وأضرب لسائل السؤال ـ وهو من المثقفين طبعا – الأمثلة بالرواية والشعر، اللذين يسبقان السياسة ليس في استكشاف الواقع، وهذا الحديث البايخ عن الفن، لكن في البعد عنه والتماس الصور الفنية والحالات الغرائبية والمصائر غير المعقولة. وهكذا أقول للسائل أرجو أن تحصر سؤالك في المفكرين والعاملين في السياسة من الأحزاب أو خارجها، وهؤلاء طبعا فيهم المثقف المنتمي والمثقف الملتزم والمثقف الفاعل والمثقف السلطوي والمثقف التقدمي والمثقف الرجعي والمثقف الانتهازي، وما تشاء من أوصاف واصطلاحات، بذل فيها الفلاسفة الوقت والجهد لينحتوها ويقومون بتعريفها، لكنها في كل الأحوال موجودة حولنا.
الإبداع حالة فردية شكلا، وذاتية للنهاية موضوعا وموقفا من العالم، يمكن أن تنحاز خلاله لنوع أو جماعة أو فكرة، لكن في النهاية تبقى الأعمال الفنية وليست الأعمال المباشرة الزاعقة التي تكشف قضاياها من أول قراءة. يحدث ذلك بين أعمال الكتاب وأعمال الكاتب الواحد لأنه في حياته يمكن أن ينتقل من حالة إلى حالة، بحسب استعداده الفكري والروحي. فمن أراد الكتابة المباشرة وثبت عليها باعتبارها سلاحا نضاليا فهو حر، لكنها ستنتهي بانتهاء ظروفها. ومن أراد أن ينحت حالة إنسانية ذات مشاعر متجاوزة ما حولها، ولو حتى عن طريق الحيرة والتردد واللجوء إلى الخيال والأسطورة سيبقى أكثر. وبعيدا عن الحديث في الإبداع الفني أعود إلى السؤال الساذج الذي يطاردنا عن موقف المثقفين، باعتبارهم شيئا واحدا أو فكرا واحدا أو اتجاها واحدا لا أدري لماذا.
يأخذ السؤال صورة أخرى فيقال النخبة، وهي صورة أضيق قليلا لأنها تشمل المثقفين الفاعلين في الحياة بشكل مباشر ومن ثم يكون المبدعون بعيدين لأن أثر الرواية الحقيقية والشعر الحقيقي ليس في تحفيزك على عمل ما، ولكن في إثراء روحك وعاطفتك بما تقرأه في الشعر من صور فنية، وما تقرأه في الرواية من تجسيد لشخصيات هي في النهاية مجازية، تختلف علاقتها بالمكان والزمان عن علاقتك أنت المحدودة بأعراف وتقاليد. دائما يقال إن النخبة فاشلة أو النخبة مهزومة أو النخبة خذلت الشعب، والذي يقول هذا واحد من النخبة، إما يقدم برنامجا أو يجري حوارا أو يكتب مقالات فكرية وسياسية ودراسات كبيرة والله. ولا أحد يريد أن ينتبه إلى أن النخبة أنواع أيضا. فيها الصادق مع نفسه، سواء كان مع أحلام البسطاء أو ضدها، وفيها الصادق مع مصالحة الشخصية فقط لا غير ويلبسها ثوب الدفاع عن قضايا عامة يعرف جيدا أنه أكبر المستفيدين منها، لكن التعميم في مسألة النخبة هو التعميم في مسألة المثقفين. وما يكاد يطلق أحد الكتاب الجملة السيئة عن النخبة أو المثقفين، حتى تجد طابورا خلفه لا ينتهي. هناك نخب دخلت السجون كما هناك نخب أدخلت غيرها السجون وكتبت التقارير. هناك نخب انضمت لثورات الربيع العربي، وهناك نخب سكتت لترى الفائز في النهاية، لبدت في الدرة كما يقال في مصر. وهناك نخب أعلنت اختلافها من البداية وهي قلة فالأكثر من النوعين السابقين. لكن لا فائدة في الكلام. التعميم أسهل الطرق للإدانة، لا أحد لديه الوقت للفرز. وللأسف ينتشر هذا النوع من الكلام على مواقع الفضاء الافتراضي ويشارك فيه شباب من الأجيال الجديدة، لكن هؤلاء يمكن مناقشتهم أو توضيح الأمر لهم، لأن مصالحهم لم تمش بعد أمامهم، لكن المتنفذين في الميديا والصحافة ومراكز البحث أيضا لا يكفون عن التعميم، ولا تجد فرصة دائما لتوضيح الأمر.
سأحكي بعض الطرائف القديمة.. كنت من رواد مقهى ريش طبعا بعد أن وفدت إلى القاهرة في منتصف السبعينيات. كنت محبا كبيرا لأمل دنقل ونجيب سرور. الاثنان لا يتفقان مع ما يحدث حولهم كتابة وفعلا . كنت حسن الحظ إذا وجدت أحدهما فقط. وأكون سيئ الحظ اذا وجدتهما معا. يلوذ نجيب سرور بالصمت مع ما يشربه بينما يتحدث أمل دنقل، وإذا لم ينصرف أمل قبل نجيب سرور الذي يتأخر دائما، تنتهي الجلسة بمشاجرة، رغم أن أحدا من الكتاب لم يكن على خلاف مع النظام الحاكم، بقوة خلافهما المعلنة في ما يكتبون وفي ما يتحدثون. في لحظة يريد كل منهما أن يكون سيد الجلسة أمام الثاني، وبصفة خاصة نجيب سرور، رغم اجتماعهما الجبار على الخلاف مع النظام الحاكم. المبدعون مثل القوارير والتعميم بينهم قصور في الفهم. الإدانة أسهل الطرق عند الكثيرين وأخطرها التعميم، لأنه إذا كان لقصور في الفهم لا يمكن احتماله، فما بالك إذا كان من أجل مصلحة خفية، حين تدخل بين المبدعين لا تضعهم تحت خيمة واحدة. يا كتاب ومثقفين وإعلاميين قولوا ما تشاؤون في بعضكم لكن رفقا بالقوارير، أقصد المبدعين!
٭ روائي مصري
إبراهيم عبد المجيد