نتعرف على مزيد من العلماء والمفكرين العرب المعاصرين، الذين تركوا إرثا يمكن أن يساعد في استئناف مسيرة التنوير المطلوبة لمواجهة التردي الراهن، وكنا قد تعرفنا على عالم الاجتماع سيد عويس.. والفيلسوف زكي نجيب محمود.. وعالم الجغرافيا سليمان حزين.. والمؤرخ علي الوردي.. والمفكر القومي عبد الله الريماوي.. وعالم الجيولوجيا رشدي سعيد، ونواصل التعرف على كل من:
7- حامد عمار (1921 – 2014).. الدكتور حامد عمار استاذ العلوم التربوية بجامعة عين شمس، وملقب بشيخ التربويين العرب.. ولد بقرية «سلوا» في أسوان، وكانت تعاني الإهمال والفقر والتخلف، وأدت بها عزلتها في أقصى جنوب مصر لمزيد من الحرمان من الخدمات كافة. ومع ذلك خرج منها أهم علماء التربية في تاريخ العرب الحديث. وجعل من قريته مركز اهتمامه المهني والأكاديمي، فرسالته للماجستير كانت عنها، وعنوانها «بحث في عدم تكافؤ الفرص التعليمية في مصر»، واختار موضوع رسالة الدكتوراه عن «التنشئة الاجتماعية في قرية مصرية – سلوا – مديرية أسوان»، من جامعة لندن عام 1952. وهي أول رسالة عربية في اجتماعيات التربية؛ نشرتها دار أمريكية كبرى، ومتداولة من عام 1954 حتى الآن.
ونشر الدكتور عمار كتابه الأول عن «العمل الميداني في الريف» عام 1954، وتوالت مؤلفاته: «في اقتصاديات التعليم»، و»أعاصير الشرق الأوسط وتداعياتها السياسية والتربوية»، و»في آفاق التربية العربية المعاصرة من رياض الأطفال إلى الجامعة»، و»تعليم المستقبل من التسلط إلى التحرر»، و»مواجهة العولمة في التعليم والثقافة»، و»التنمية البشرية في الوطن العربي»، وهو الكتاب الذي نال به جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في 1994، وهو نفس عام فوزه بجائزة الدولة التقديرية، ونَيْل جائزة النيل في العلوم الاجتماعية 2008، وهي الجائزة الأرفع في مصر.
ونعرض لبعض إسهاماته على المستوى العربي؛ منها مشاركته في تأسيس معهد الخدمة الاجتماعية بالأردن في 1970، وفي وضع برامج مكتب صندوق الأمم المتحدة لرعاية الأطفال (يونيسيف) الإقليمي في أبوظبي (1972 – 1974)، وإنشاء مركز التدريب على العمل الاجتماعى في مسقط عاصمة عُمان. وتعاونه في وضع وثيقة إنشاء الصندوق العربي للعمل الاجتماعي التابع لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب (تونس 1982)، وفي تأسيس المجلس القومى للطفولة والأمومة (مصر 1988)، وإنشاء قسم الدراسات التربوية في معهد الدراسات والبحوث العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 2001.
وتناول مجانية التعليم في سلسلة من المقالات، وفي أحدها عبر عن ذهوله من اقتراح تقدم به أحد التربويين مطالبا بإعادة النظر في مجانية التعليم، التي يعتبرها عمار الأمل الوحيد في انفتاح طاقة الحياة الكريمة أمام المواطن. ووصف الاقتراح بالكارثي؛ في بلد استقرت فيه المجانية من عام 1944؛ حين وحدت الدولة التعليم الابتدائي وأقرت مجانيته، بالإضافة إلى قرار وزير المعارف وقتها الدكتور طه حسين بمجانية التعليم الثانوي، واستشهد عمار بعبارته المأثورة «وعلى وزير المال أن يدبر المال»!..
وجاءت ثورة يوليو 1952 فأقرت المجانية على مستوى التعليم الجامعي، وأصبحت مراحل التعليم كلها بالمجان، وهو حق اكتسبه الشعب بنضاله الطويل ووعي مثقفيه وساسته الوطنيين، وأضحى حقا مشروعا غير قابل للتفريط. والحاجة ماسة الآن لعودة هذه المكتسبات والتمسك بها.
8- جمال الأتاسي (1922 – 2000). مفكر عربي سوري من مدينة حمص. سليل أسرة كافحت الانتداب الفرنسي؛ واصل دراسته العليا في فرنسا حتى حصل على الدكتوراه في الطب النفسي والعقلي. وهو أحد مؤسسي حزب البعث مع صلاح البيطار وميشيل عفلق، وتحول إلى الناصرية. وحول هذا يقول: «لقد كنت من صانعي ذلك البعث الذي حمل في الأربعينات والخمسينات مشعل التحرر والوحدة، ولقد جئت إلى الناصرية عندما وجدت في عبد الناصر وما نهض له الفرصة التاريخية». وكانت ميول الأتاسي وحدوية اشتراكية، ووُصف بـ»أبي الاشتراكية السورية».
وفي محاضرة له بعنوان «الوحدة في زمن السقوط والردة»؛ ألقاها في عَمَّان عام 1994؛ أشار إلى أيام شبابه الأولى وفترة الدراسة الجامعية في دمشق، ودوره في تأسيس روابط وجمعيات وأحزاب قومية وحركات نضالية. وفي عام 1956 كان له دور في إقامة جسر استراتيجي ثلاثي استبق إعلان الوحدة، فجمع الأردن إلى مصر وسوريا؛ في حلف عسكري وميثاق عمل مشترك ضد الأحلاف الغربية والاعتداءات الصهيونية.
شارك الأتاسي في التهيئة للوحدة المصرية ـ السورية، وواصل العمل الوحدوي بعد الانفصال. وركز اهتمامه على إقامة جبهة شرقية في الأردن موازية للجبهة المصرية، وأشار إلى العراق فقال: «ولابد أن يكون واضحًا أمام كل عربي أن العراق ليس درعا واقيا للأمة في وجه الغزاة والطامعين من الشرق فحسب بل هو جزء لايتجزأ من وجود الأمة وكيانها، وأي تهديد لانفراط عقده الوطني هو تهديد لوجود الأمة ومستقبلها»، وناصر الأتاسي الكفاح الجزائري إبان الاستيطان الفرنسي، بجانب موقفه الثابت من القضية الفلسطينية وصولا إلى موقفه من حصار العراق..
والعرب بأمس الحاجة إلى عودة الروح الوحدوية الجامعة؛ للانتصار على مخطط الشرق الأوسط الكبير أو الجديد ومنع تفكيك القارة العربية إلى دويلات وكيانات ميكروسكوبية.
9- عصمت سيف الدولة (1923 – 1996).. فقيه قانوني ومفكر قومي مصري. ولد في قرية الهمامية بمركز البداري في محافظة أسيوط؛ تلقى تعليمه الأساسي بالقرية، وانتقل للقاهرة ليستكمل تعليمه الجامعي، وحصل على إجازة الحقوق من جامعة القاهرة عام 1946م ودبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1951م ودبلوم الدراسات العليا في القانون العام سنة 1952م من جامعة القاهرة، وحصل على دبلوم الدراسات العليا في القانون عام 1955م والدكتوراة في القانون سنة 1957م من جامعة باريس.
وسُجن في بداية حكم السادات (1972 – 1973) بتهمة تشكيل تنظيم قومي عابر للحدود السياسية العربية لتغيير نظم الحكم. واعتقل في نهاية حكمه عام 1981م. وفي قراءة للباحث والكاتب العروبي محمد يوسف لكتابه؛ «هل كان عبد الناصر ديكتاتورا؟» وصفه بأنه الكتاب الأهم عن قضية الديمقراطية في الفكر والممارسة الناصرية، فقد تضمن عرضا واضحا ومفصلا للمنظور الناصري للديمقراطية؛ مختلف عما كان سائدا قبل 1952، واتخذ طريقا خاصا انحاز فيه بشكل واضح ومعلن للأغلبية العظمى من الشعب. واعتبره يوسف «كتاب الملتزمين بقضية الأمة عن وعي وإيمان».
ولسيف الدولة نظرية للثورة العربية.. تنطلق مما وصفه «جدل الإنسان»؛ مقابل الجدل المثالي لجورج فيلهلم فريدريش هيجل (1770 – 1831) أهم مؤسسي الفلسفة المثالية الألمانية في مطلع القرن التاسع عشر.. ونقيض الجدل المادي؛ جوهر الفلسفة المادية للفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل هانريك ماركس (1818 – 1883).. واتخذ سيف الدولة جدل الإنسان نهجا لمعالجة قضايا الحرية وقوانين ومسارات التطور الاجتماعي والتاريخي للإنسان.. وأعد دراسة قانونية ودستورية وسياسية بعنوان «هذه المعاهدة» دحض فيها «معاهدة السادات» مع الدولة الصهيونية، واعتبرت الدراسة الأهم حولها حتى الآن.
وحرص الدكتور عصمت سيف الدولة في سنواته الأخيرة على لقائه كلما حضرت إلى القاهرة؛ وكان شقيقي الشاعر الراحل أحمد يصاحبني في هذه اللقاءات.. وكان يقضي معنا يوما كاملا؛ من العاشرة صباحا حتى المساء.. نتناقش في الآراء والقضايا والمقترحات والمشروعات.. ويتلو بعض مخطوطاته، ومنها مخطوط «مذكرات قرية» قبل نشرها.. ونذهب لتناول الغداء في مطعم قريب ثم نعود ونواصل.. واعتبر شقيقي الراحل أحمد أننا أضعنا فرصة ذهبية بسبب عدم تسجيل تلك اللقاءات والحوارات والمسامرات؛ لقيمتها الفكرية والتاريخية الكبيرة!.
وإحياء سِيَر وأعمال وانجازات هؤلاء العلماء والمفكرين يساهم في إنضاج المشروع البديل لـ»الشرق الأوسط الكبير» أو الجديد، ويعوض ما ضاع بسبب واقع يعاني من الركود العقلي والخمول الذهني والتضليل الإعلامي، ويحاصر المواطن من كل اتجاه.
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب