من الأشياء المهمة التي ذكرها الكاتب الأرجنتيني المخضرم: ألبرتو مانغويل في كتابه الصغير الرائع: مع بورخيس، الذي تحدث فيه عن الفترة التي قضاها مع ساحر القصة الكبير: خورخي لويس بورخيس، يقرأ له الكتب بسبب فقدانه البصر، أن الكاتب الكبير كان طوال حياته، يقرأ بلا أي تمييز، يقرأ لمشاهير الكتابة في العالم ومغموريها على حد سواء، ولا يستحي أن يستعين برأي لكاتب لا يعرفه أحد، وأن يشيد بكتابة شخص آخر، مقدما إياها على كتابته الشخصية، ويمكن أن يشترك مع كاتب صغير وغير معروف، في صياغة عمل شعري أو درامي، وممكن جدا أن يقضي أمسيات طويلة، يناقش أفكارا معينة مع كتّاب، هو أستاذ لهم. وفي الفترة التي فقد فيها بصره، تحول إلى قارئ أكثر نهما، يحاول مطاردة المعرفة عن طريق أصدقاء يأتون إلى شقته، ليقرأوا له ما قد يكون ضروريا.
هنا بالتحديد، ألتفت إلى ذلك التقدير العظيم الذي كان يكنه بورخيس للمادة الإبداعية بغض النظر عن كاتبها، ما جنسيته؟ وكم عمره؟، وهل له قاعدة قرائية عريضة، أم لا؟ إلى آخر تلك المعوقات التي نلاحظها في تصرفات كثير من الكتاب والقراء.
فبعض الكتاب المعروفين مثلا، لا يقبلون على الإطلاق أن يستضافوا في ملتقيات يشاركهم في إحيائها كتاب مبتدئون، ودائما ما نجد أن الكتاب المبتدئين، يحاولون اللجوء إلى من سبقوهم من أجل اكتساب الخبرة أولا، ومن أجل البحث عن المساندة المعنوية ثانيا، ولكن نادرا ما نجد كاتبا موهوبا، أمسك بعصا مساندة مدها كاتب قديم، وعبر بها إلى الانتشار، لأن من النادر أن تمتد له العصا أصلا. وفي ساحات القراءة، كذلك يصبح النقد قاسيا جدا ومتطاولا، إن طال عملا غير متقن لكاتب معروف، وبقلم شاب لا يعرفه أحد، فلن يغفر الكاتب ذلك، بينما كان بورخيس يرحب بما يقال عن نصوصه سلبا أو إيجابا، ويمكن أن يناقش منتقديه للوصول إلى لحظة رضا عن نصه، لا بد يريدها باقتناع الطرف الذي انتقده. فالكتابة مهما كانت جيدة، ومتقنة، وصادرة من كتاب سحرة كما أسميها، لا بد تحمل بعض الجزيئيات المعطوبة أو فلنقل، المكتوبة بإهمال غير مقصود، وهذا ألاحظه كقارئ لكتابات الآخرين، وقطعا يلاحظه من يقرأوون كتابتي من الزملاء، وحتى غابرييل غارسيا ماركيز، الذي كان يتنفس إبداعا، لم تسلم بعض نصوصه من تلك النقاط المعتمة، وهكذا ومن أجل كتابة ثرية، وجيدة فعلا، نحتاج لتواصل كبير، بين الرؤى ونظرات التذوق المختلفة، ونحتاج إلى أسفلت إبداعي متعدد المصادر، لنردم به الثغرات التي تحتاج إلى ردم.
لو طبقنا منهج بورخيس الشفاف، على كتابتنا العربية، نجد هناك من ينتهجه بكل تأكيد، فليس كل الكتاب العرب، يضخمون أنفسهم بنرجسية مزعجة كما يردد البعض، ولماذا أصلا النرجسية، والتضخم، واضطهاد كتابة الآخرين، ولا يوجد عائد مادي أو أدبي ذو جدوى، توفره الكتابة العربية؟ وحتى الصيت إن وجد، فهو صيت محدود، يظل أسيرا لجغرافيا محددة، ومعروف أن الذي يكتب هنا، إنما يكتب بنصف عقل ونصف ساعات عمل، لأن نصف العقل الآخر، موجود في طرق كسب العيش، ونصف الوقت أيضا يبحث عن اللقمة، ولن يتخلى عن البحث عنها حتى يرحل الكاتب، وحتى الكتاب الظواهر، الذين تحدثت عنهم كثيرا، والذين قد توفر لهم الكتابة حياة جيدة جدا، لا يمكنهم أن يغامروا بترك وظائفهم، والاعتماد على الدخل الإبداعي، أي أن هناك ثمة خوفا، أن لا يظل الظاهرة ظاهرة دائمة، وأن تأتي ظواهر جديدة، تسحب سجاد الانتشار من تحته. وكنت قرأت حوارا مع كاتب باكستاني شاب، يعمل محاسبا في مصرف، حققت روايته الأولى أصداء كبيرة، وجاءت بعائد مادي كبير، ذكر فيه أنه لن يترك وظيفته، ويتفرغ للكتابة، في بلد ربما يكرمك قراؤه مرة، ولا يكرمونك بعد ذلك. ولا أظن أننا أفضل حالا من باكستان، لنتبع طريقا آخر.
أعتقد أن المقاهي، خاصة في مصر، من الأماكن التي تذيب الفارق بين أجيال الكتابة المختلفة بسهولة، وتضطر من أراد أن يتضخم بسبب العمر أو الشهرة، أو النجاح، أن يفكر كثيرا قبل أن يستخدم آليات النرجسية وتعابيرها. المقهى يقدم الشاي والقهوة، والنرجيلة، ويقدم الأجيال جيلا إثر جيل، ولولا جبروت المقهى لما تعرفت شخصيا في بداية حياتي الكتابية، إلى أباطرة حكائين ما كان يمكن التواصل معهم أبدا.
لقد سألني أحد القراء عن ورطات التواصل، والمناقشات والاستماع إلى الرأي والرأي الآخر، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي التي لا بد أن يتورط فيها الكاتب بصفحات ينشر فيها ما يريد نشره، تماشيا مع متطلبات هذا الزمان.
كانت إجابتي ألا ورطة هناك على الإطلاق، بل بالعكس فرصا طيبة لأن يختفي أي جفاء بين الكاتب وقرائه، والكاتب وزملائه، والكاتب ومن يقرأ لهم شخصيا، ومهما يكن من سلبيات في الأمر من حيث أن ليس كل من يتواصلون مع الكاتب، هم قراء أو مهتمين بالثقافة والأدب، إلا أن الأمر يستحق تذوق الورطة والتواصل متى ما سمح الوقت، وقد ذكرت طرائف عديدة مررت بها، منها ما كان محفزا للكتابة، ويستحق أن أشاركه من يتابعني وأتابعه. فقط تبقى قمة الورطة، عدم العثور على وقت كاف لمطالعة المخطوطات الأدبية التي يرسلها الباحثون عن رأي آخر قبل النشر، من الأجيال الجديدة، وكان يمكن أن تقرأ كلها، لو كان الكاتب، كاتبا فقط، أي موظفا عند الكتابة، يقرأها ويكتبها ويسافر ويستقر بها، وتمنحه ما يسند الجيب.
نحن نحتاج إلى الكثير لتزدهر حياتنا الثقافية، نحتاج أن نستوعب دروس بورخيس جيدا، وفي الوقت نفسه، أن يكون ثمة احترام وتقدير للمبدع، وهو يتواصل مع أشخاص لا يعرفهم على الأرض، فقد كان بورخيس محبوبا ومحترما، أينما حل، رغم ذوبانه في الناس والكتب، ومنحه الآراء الإيجابية والسلبية في أعمال الآخرين، بلا تضخم أو استفزاز.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
حسب تجربتي المتواضعة في الكتابة الابداعية فإن لها شروط مقيدة مرتبطة باالكاتب نفسه ةقد تختلف من شخص لآخربعيدة كل البعد عن صناعة أو تصنع ، في تلك الممبزات الخاصة ما هو داخلي وخارجي متي أقبلت هذه المميزات واستبدت بصاحبها عليه أن يكتب مندفعا إليها مرغما عنها أو في الذي أطلق علي كتابه ـ صادف الرافعي ـ وحــــــي القلم ـ يصفوا الجو الخارجي خال من هموم نطرح أو حادث ينغص… جينها تظهر الصورة لامعة يكون عليها اطمئنان أن تقرأ ويكون الاعتناء، أفكار متدفقة في بعض أحيان تأتي متاخرة يكون إلغاء ماعلق بما لايتفق مع ماسبـــق تتمدد الكتابة في طريقها إلي النهاية …..
حقيقةً، يا أخ أمير تاج السر،
الحياة الثقافية، في وطننا العربي الحزين، تحتاجُ منا الكثير الكثير لكي تنهضَ من سباتها، لا بل من مواتها، قبل أن نحتاج نحن إلى الكثير لكي تزدهر هذه الحياة!!!