توتر العلاقات بين الدول امر طبيعي يحدث باستمرار لأسباب مختلفة وقد يؤدي لقطع العلاقات، بل ربما تسبب في اشتعال الحروب التي تطورت في بعض الحالات لتصبح حروبا «عالمية». وبرغم ان الشعوب عادة لا علاقة لها بالتوترات، الا انها تدفع الثمن الاكبر لما يتمخض عنها. وفي الأوضاع العادية تنطلق وساطات من الدول الصديقة لأحد الطرفين او كليهما، او من الأمم المتحدة لرأب الصدع واعادة المياه إلى مجاريها، وتفلح هذه الوساطات عادة ولكنها قد تفشل كذلك. وتسعى الدول ذات الدبلوماسية الفاعلة لتجاوز الازمات بطرح الحلول الوسط لكي تتجنب التصعيد وتداعياته. ولكن المشكلة تتفاقم عندما يكون للدول طموحات توسعية او رغبة في الهيمنة او فرض السيطرة على الدول الاخرى المجاورة. وهنا تتلاشى الحنكة السياسية وتفقد المبادرات تأثيرها. وغالبا ما تفشل تلك المحاولات في احتواء المشكلة في مثل هذه الحالات، وقد تضطر الدولة الطامحة للتراجع بالبحث عن مخارج تحفظ ماء الوجه. وثمة مشكلة اخرى تتمثل برغبة بعض الانظمة في بسط النفوذ والتوسع خارج الحدود.
وقد يكون لدى بعض الانظمة غرور او يكون حكامها مصابين بداء العظمة، الامر الذي طالما ادى لسقوط الحكومات والدول. كما ان الكثير من الازمات ينجم عن سوء تقدير الحكومات مستويات الخطر وغموض النتائج المتوقعة عن تداعي الامور. ويمكن القول ان كثيرا من الازمات التي تعاني منها المنطقة العربية ناجمة عن هذه الظواهر التي تزداد اتساعا بتعمق الاستبداد والحكم الفردي. كما ان توفر المال النفطي وتلاشي القيم الديمقراطية والحقوقية في الغرب، كل ذلك من عوامل التراجع في الامن المحلي والاقليمي وكذلك العلاقات الاقليمية والدولية. ولا بد من الاشارة إلى ان الايديولوجيا المشتركة بين الدول توفر دعما دبلوماسيا للدولة عندم تختلف مع غيرها من خارج منظومتها الايديولوجية.
ثلاثة امثلة لهذه الظاهرة قد تساهم في توضيح الفكرة.
المثال الأول: السياسة التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمحاصرة إيران وتشديد العقوبات عليها، ابتداء بالغاء الاتفاق النووي وصولا لمحاولات جر الدول الاخرى للتصعيد معها. حتى الآن لا يبدو ان النجاح سيكون من نصيب هذه السياسة لاسباب عديدة منها الخشية من الاستخفاف بالعمل الدولي المشترك والانحياز الأمريكي الواضح للكيان الاسرائيلي وعدم الثقة بسياسات ترامب وتطرفه برفض الاتحاد الاوروبي ككتلة سياسية منافسة للولايات المتحدة.
سعى الرئيس الأمريكي للضغط على الدول الخمس الاخرى التي ساهمت بجهود حثيثة للتوصل إلى الاتفاق المذكور، للانسحاب منه. ولكن الدول الخمس الاخرى تعتبره اتفاقا متميزا لا يمكن التفريط به لان ذلك يضعف الحماس للعمل المشترك لحل الازمات الدولية. ولا تختلف اساليب ترامب التي تتبنى اساليب الترهيب والتهديد التي تقترب مما يمكن تسميته «بلطجة سياسية» من الاساليب التي تنتهجها حكومات اخرى كما سيتضح لاحقا في هذا المقال. فقد سعى لفرض قراره الانسحاب من الاتفاق المذكور بالاعلان عن عقوبات أمريكية ليس على إيران فحسب بل على الشركات الاوروبية التي تتعامل معها ايضا. وقد انصاع عدد منها لذلك، ومن بينها شركة ايرباص التي جمدت اتفاقات تزويد إيران بطائرات حديثة لدعم اسطولها الجوي الذي يعاني من نقص في الطائرات والمعدات. كما تم تجميد اتفاقات اخرى لتزويد إيران بالمعدات الصناعية والتنقيب عن النفط وتطوير الحقول النفطية الإيرانية كما فعلت شركة توتال الفرنسية التي انسحبت من مشروع تطوير حقل بارس الإيراني وسواها. هذا بالاضافة لوقف التعامل المالي مع إيران وفرض حصار على كافة نشاطاتها المصرفية. هنا استخدمت أمريكا امكاناتها الاقتصادية ودورها في ادارة النظام المصرفي العالمي لاجبار الدول الاخرى على الانسحاب من الاتفاق النووي المذكور.
المثال الثاني: يتمثل بالسياسة البريطانية تجاه روسيا في ضوء ما تعرض له مواطن روسي مع ابنته في مطلع هذا العام من استهداف بغاز الاعصاب (نوفيتشوك) كاد يقضي عليهما. ويعتقد ان تلك المادة ادت لوفاة مواطنة بريطانية واصابة آخر بالعمى وذلك بعد بضعة شهور على الاصابات الاولى. بريطانيا حاولت تعبئة اوروبا لمشاركتها في استهداف روسيا ومقاطعتها دبلوماسيا واقتصاديا. واتضح وجود تأرجح في موقف الاتحاد الأوروبي ازاء روسيا ما بين اظهار حماس محدود لمعاقبة روسيا والاستمرار في العلاقات الدبلوماسية المعتادة مع موسكو. بريطانيا سعت لتعبئة اوروبا لتلتزم بموقف مشترك معها ضد روسيا. جاء ذلك في الوقت الذي قررت بريطانيا فيه الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وهو قرار اغضب الدول الاقوى في الاتحاد ومنها المانيا وفرنسا وايطاليا. وكان موقف بريطانيا غريبا من جهة وتعبيرا عن شيخوخة دبلوماسية من جهة اخرى. فما دام شعبها قد قرر الانسحاب من الاتحاد الأوروبي فكيف تطالب دول ذلك الاتحاد بالوقوف معها؟
الضغط البريطاني على اوروبا ساهم في صدور بعض الخطوات الاوروبية ضد روسيا ولكن سرعان ما تبدد ذلك وعادت العلاقات مع موسكو إلى حالتها الطبيعية. كانت حكومة السيدة ماي تسعى لمحاصرة ادارة الرئيس بوتين سياسيا واقتصاديا وبذلك تؤكد فاعلية الموقف البريطاني وتحافظ على موقع بلادها في السياسة العالمية. واعتقدت ان ما لديها من ادلة تثبت تورط روسيا في استخدام مادة «نوفوتشيك» لتسميم المواطن الروسي سيرجي سكريبا وابنته ستدفع اوروبا لمسايرتها في محاصرة روسيا، ولكن ما مصلحة اوروبا في ذلك؟
المثال الثالث: هو النمط السعودي في التعامل الدبلوماسي بعد ان تخلت الرياض عن سياستها السابقة التي تميزت بالهدوء والدبلوماسية الصامتة. كانت الرياض تمارس سياستها بالتواصل السري من جهة وعبر المنظمات والمؤسسات الخاضعة لنفوذها مثل منظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقا) ورابطة العالم الإسلامي والمؤسسات الدعوية داخل المملكة وخارجها من جهة اخرى.
وكانت تلك الدبلوماسية تهدف اساسا للحفاظ على البيت السعودي وضمان ولاء المواطنين والحلفاء الخليجيين. وعلى مدى ثلاثين عاما من عمر مجلس التعاون الخليجي سعت الرياض للحفاظ على ذلك الكيان ليكون ذراعا دبلوماسية وامنية تمارس من خلاله النفوذ الاقليمي والعلاقات الخارجية. لكن هذه الدبلوماسية تغيرت بعد رحيل الملك عبد الله.
اليوم تمارس السعودية علاقاتها مع الدول الاخرى باساليب مختلفة لسببين: اولهما الخشية المتصاعدة من احتمال سقوط نظام الحكم اذا حدثت تغيرات جوهرية في منظومة الحكم العربية، وضمان هيمنة سياسية اقليمية تساعدها على توسيع نفوذها وتصفية الحسابات مع الدول المناوئة. فمثلا تحت مسمى قوات درع الجزيرة تدخلت السعودية في البحرين بدعم من الامارات. ولم تعلن السعودية الحرب على اليمن الا بعد ان ضمنت مشاركة 13 حكومة اخرى في ذلك العدوان.
في البداية استطاعت الرياض جر تلك الدول لارسال قوات للمشاركة في عدوانها على ذلك البلد العربي المسلم، ولكن سرعان ما انسحبت قوات عدد من البلدان. واصبح واضحا ان المشاركة انما كانت في مقابل مليارات الدولارات. مع ذلك سحب السودان قواته ولم يعدها الا بعد ان تعهدت السعودية بتقديم المزيد من الاموال. وسحبت المغرب قواتها قبل بضعة شهور ولكنها اعادتها بعد مفاوضات شملت الجانب المالي.
السعودية تفضل تنفيذ سياساتها عبر «تحالف» يشمل دولا اخرى لتجنب اللوم المباشر لسياساتها. ولم تعلن الرياض قطع علاقاتها مع طهران الا بعد ان ضمنت دعم دول اخرى مثل جيبوتي والسودان والصومال. وهذا يؤكد انها لا تستطيع جر الآخرين لدبلوماسيتها دائما. فحين قررت قطع علاقاتها مع دولة قطر لم يستجب لدعوتها سوى حكومة البحرين. اما عندما توترت علاقاتها مع كندا فانها لم تجد اية دولة اخرى تدعمها. وساهم في ذلك اصرار كندا على موقفها وانها لن تتراجع عن دعم حقوق الانسان ومطالبتها السعودية باطلاق سراح النساء اللاتي اعتقلن بسبب موقفهن او نشاطهن السلمي.
٭ كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي