■ يصغي رئيس الدولة بعظمته للطفل المتصل به هاتفيا وهو يلقي عليه قصيدة، ونصغي إليه نحن أيضا، تحديدا قلّة منا يصغون للقصيدة وما تحتويه، لأن الأكثرية سيبهرها الرئيس الذي نزل من عليائه ويخاطب الطفل بـ«يا عمّو» …الأمر ليس مألوفا لنا، فلا عتب على المندهشين والمبهورين والمخطوفين بالمشهد!
ينتشر الفيديو كالنار في الهشيم، في زمن شبكات التواصل الاجتماعي، ويحصد الرئيس مزيدا من الإعجاب مع اتساع رقعة شعبيته، لكن فصول القصة الحقيقية تبدأ بعد أن ينتهي الفيديو، التي لن نعرفها ربما أبدا، كما يحدث عادة، في مواقف كهذه.
شيء ـ بعد مشاهدة هذا الفيديو- يذكرنا بقصة أخرى في زمن آخر، لا إعلام فيه ولا دعايات إشهارية للرؤساء، عبر استغلال مواقف كهذه، حين وقف طفل في عمر الثالثة عشرة من قرية قصّابين في بلدة جبلة السورية أمام الرئيس شكري القوتلي عام 1944 وألقى قصيدة وطنية ألفها، مع أن قدميه لم تطآ عتبة المدرسة، فأعجب الرئيس بفصاحته، وقبّله وسأله أن يطلب ما يريد، فطلب الطفل أن يتعلم، فكان له ذلك، إذ أٌرسل إلى المدرسة العلمانية الفرنسية في طرطوس، ونجح الطفل وتفوّق وبرع وكبر واشتهر، وكان ذلك الطفل هو الشاعر والمفكر «أدونيس». والغريب أن أدونيس يحكي هذه القصة إلى اليوم، وقد رواها لي حين استضفته في إحدى حلقات برنامجي، وكانت تلك أغرب قصة سمعتها من أحد ضيوفي كوني من البيئة العربية الشاسعة التي قليلا ما يرى فيها الرؤساء ما تحت أنوفهم.
ولو أن ذلك الطفل كان ناكرا للجميل، لمضى في حياته بدون ذكر الحكاية، خاصة أن ارتباط أي مثقف بسياسي ولو من باب الوفاء الشخصي قد يحسب عليه لا له، ويقلب حياته رأسا على عقب، ولعلّ أدونيس دفع ثمن مواقفه سواء العاطفية كهذه أو السياسية أو الفكرية، بما أنّه قال دوما ما يفكر فيه بصوت عالٍ.
بين زمنين، وبين طفلين وبين رئيسين سنقف عند الحدود الفاصلة بين الإنسانية المحضة وخدمة المصالح.
فقد خدم الطفل المريض بالسرطان الرئيس رجب طيب أردوغان خدمة لا تضاهيها خدمات الساسة والمستشارين وجيوش الإعلاميين حوله، وضاعف شعبيته كيفما كان الحال، وأخرج من أعماقه «عمّو طيب» الحنون المنصت لطلب طفل يتلقى علاجا كيميائيا في مستشفى ما. القصيدة التي تتغنى بجبال الأناضول لم تخطئ الوصف، لم تخترع لغة تُناسِب الحدث، ولكنها جاءت في اللحظة الحاسمة لتسجل موقفا سياسيا كبيرا، « أنا الأناضول الكردي، التركي ، اللاظي، الشركسي…إلخ»
لنفرض أن لا جدال في « اللحمة الكاملة للأناضول» جغرافيا، الطفل العليل الذي حفظ عن ظهر قلب تلك القصيدة وألقاها، ألا تحرّك فينا أسئلة كثيرة، من بينها السؤال الأهم : موقف من هذا؟ نتوقف طويلا عند محتوى القصيدة، عند صوت الطفل السعيد وهو يظهر على شاشة هاتف الرئيس مبتسما، عند ملامح الرئيس المبتهجة، عند حركة المصورين وهم يأخذون المشهد المذهل من عدة زوايا، كل شيء يبدو مدروسا، أو أنه هدية سماوية تلقاها الرئيس في هذه الأيام الحاسمة، وهي تختلف تماما عن تلك الأيام التي عاشها أدونيس في قصّابين، والتي جَرَّت فيها الأقدار أقدام رئيس الجمهورية لتلك البقعة، ليقف الطفل أمامه ويسحره بكلام اعتقد ابن الثالثة عشرة أنه قصيدة، كما اعتقد كل السامعين حينها، فيما «ليس له أي قيمة فنية» على رأي قائلها نفسه بعدها بسنوات.
المؤلم في القصة ليس هنا، بل في اعتقاد أدونيس أن الكتابة للرئيس شاكرا قد يكون تصرفا لائقا، ومحترما، ولكنه لم يتلقّ أي رد، فظلّ حاملا ذلك الجميل لرئيس كان يجب أن يقوم بما قام به، ليس فقط معه بل مع كل أطفال سوريا، كان استثناؤه بتلك الطريقة جميلا وموجعا مثل أسطورة خرافية لم تكتمل جمالياتها.
والمؤلم أكثر أن أدونيس ظل حاملا في قلبه ذلك الجميل إلى هذه اللحظة، وفكر مرارا بأي طريقة قد يوصل شكره للرئيس الذي علّمه، حتى أنه أراد أن يتصل بابنتيه ولم يوفق ـ حسب ما عرفت – مع أنهما عاشتا في باريس حيث عــــاش، في الحقــــيقة يبدو الطرف الآخـــر غير مبال لا بنجاح أدونيس ولا بتألقه ولا بالسمعة العالمية التي بلغها بفكره وأدبه، حتى أن اسمه يتردد سنويا خلال الحديث عن ترشيحات نوبل للآداب، فيما اسم شكري القوتلي اندثر تماما من مشهد اهتماماتنا، ولا يذكر إلا نادرا عند الوقوف في محطات تاريخية معينة.
لا يذكر التاريخ الذي وصلنا أن الرئيس شكري القوتلي تابع عن قرب الطفل الذي تبناه تعليميا، لم يهتم بالأمر، ذهب من ذاكرته وهو يصارع خصومه السياسيين، ثم اختفى، ولعلّه فعل ما فعل في لحظة تأثر عاطفية كُلِّلت بقراره لإبهار من حوله، كعادة السياسيين، وتوقف الأمر هناك، كمن أتم مهمته، أمّا أدونيس فلا يزال حبيس تلك اللحظة التي غيرت حياته، إذ بالنسبة له ما حدث شبيه بالمعجزة، لأنه أدرى بما كان سيكون عليه مستقبله خارج تلك الحادثة، ولأن أطفال سورية إلى يومنا هذا لم يحظوا بنصيبهم الطبيعي من الاهتمام، لكن الأمر في نظري أكبر من ذلك، فلو أن الطفل القروي الفقير لم يكتب «قصيدته البسيطة» ولم يمتلك شجاعة إلقائها في حضرة الرئيس وموكبه، ولم يعلن عن أمنيته بدون خجل على عادة أبناء القرى، لما أرسل للمدرسة، ولو لم يثابر ذاك الطفل بكل ما أوتي من قدرات والتزم بخطّ طموحه، لما حقق شيئا. كل ما حققه الصبي الذكي الذي كان محروما من التعليم آنذاك، هو نتيجة لاجتهاده واستثماره لمجموع أفكاره ليحافظ على نجاحه، لقد بدأت مسيرة نجاحه بكلمة ولا تزال الكلمة هي سلاحه وثروته.
لا شيء غير الكلمة يعيد ترتيب الأشياء في أدمغتنا، وبين حرب وحرب نحتاج لقصيدة تصالحنا مع أنفسنا، وتعقد هدنة مع المحارب الذي تثيره المشاعر الغاضبة.
لا شيء يضاهي قوة الكلمة، حين يتلفظ بها طفل لم تلوثه تعليمات الكبار، إذ يصبح لها تأثير السحر على متلقيها، وخارج كل حساباتنا وقراءاتنا لما قام به الرئيس التركي الحالي، أو الرئيس السوري الراحل، وبقياس مكاسب كل واحد منهما جرّاء ذلك « الإصغاء التاريخي» سنخرج بخلاصة مهمة تبين القيمة الثمينة للإصغاء لأطفالنا، إنه الباب الحقيقي لخلاصنا وخلاص أجيالنا القادمة. إذ بالإمكان إنهاء عذابات أطفالنا بالإصغاء إليهم، ولا داعي لأن نحسد الصبي التركي على مكالمته الخاصة مع الرئيس، ففي كل بيت رئيس، متشبع بمشاعر «رئاسية» غريبة أقرب منها للغطرسة الديكتاتورية على استلام إدارة أمور العائلة، يعيش فيها الأطفال منكفئـــــين على أنفســهم، منغلقين على قلقهم، ومخاوفهم الخاصة. لقد توقفت عند تقييم لحظة الإصغاء تلك، ومدى أهميتها ليس فقط في حياة الطفل، بل في حياة الرئيس نفسه، وإن كان الرئيس بحاجة لتلك اللحظة واستثمارها لصالحه أليس أبدى بكل أب ورب عائلة أن يصغي لأبنائه ويستثمر كل لحظة لصالحه وصالح أبنائه؟
أطرح السؤال وأنا أعرف أنني ربما لن أُفهَم تماما كما أريد، وكما أدونيس الذي لم يصدق أن الرّئيس منحه فرصة عمره، أعرف أن البعض لن يصدق أن الطفل منح الرئيس فرصة عمره أيضا بكل براءته ونقائه وبدون أي مساومات وتبادل مصالح … وهذه معجزة أخرى.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
حين كنت بعمر 13 سنة ألفت قصيدة طويلة عن البستان
عرضت هذه القصيدة على مدرس اللغة العربية كي يساعدني في تنظيم حركات حروفها إلا أنه لم يشجعني إطلاقاً على الشعر
والسبب هو في تركيبي للأبيات على قافية النون وهي قافية لم يستسغها وإستهزأ منها !!
كرهت بعدها الشعر والأستاذ واللغة العربية وقواعدها
ولا حول ولا قوة الا بالله
السيدة الموقرة بروين حبيب أود ان أضيف على كلامك شيئا للقاريء كي أنصف الرئيس شكري القوتلي، لقد كان أدونيس فلاحا علويا من قرية علوية اسمها قصابين ولم يدخل المدرسة ذلك الحين وعندما سمع بأن الرئيس يقوم بجولة في منطقة الساحل جاء حافيا من قصابين إلى طرطوس وطلب من محافظ طرطوس ان يسمح له بإلقاء قصيدة بمديح الرئيس فسمح له وكان قصيدة مطلعها: اسم لو حذفت لام وياء من اسمه لباتت قوة لا يستطاع لها رد( اي اسم الرئيس قوتلي ولو حذفت اللام والياء من قوتلي باتت قوة لي) واعجب الرئيس به ومنحه فرصة العمر بالدراسة في افضل المدارس، وهنا لابد من الوقوف قليلا لأن الرئيس شكري القوتلي كان رجل الاستقلال ومناضل من رجالات سورية الكبار وشكري القوتلي كان اول رئيس عربي يتنازل عن كرسي الرئاسة لصالح جمال عبد الناصر كي تتحقق الوحدة السورية المصرية، وكان من اشرف الرؤساء وهو من خاض أول حرب ضد اسرائيل، وهو لم يكن طائفيا ليفرق بين سني وعلوي بل منح ادونيس لذكائه، ورحل ولم يسرق اموال الشعب ولم يقتل شعبه ولم يحالف مع الاعداء ضده ولم يهدم مدنه ولم يطبع مع اسرائيل كبعض الزاحفين اليوم لإرضاء نتن ياهو فنحن ياسيدتي الكريمة لا نعتبره نكرة ولم يطويه التاريخ وهو من اعلام سورية الكبار وجميل ان يعرف الانسان شيئا عن تاريخ الآخرين أما أدونيس وهو صديق لي بالمناسبة واقدره جدا ولكن اعيب عليه مواقفه من الثورة السورية وأن لا يصطف مع المصطفين إلى جانب نظام يقتل شعبه فأين شكري القوتلي من المقبور حافظ الاسد والكيماوي بشار ابن أبيه ابوالمسالخ البشرية
*بدون شك (تواضع) الكبار
فضيلة وحكمة وتزيد من رصيدهم
دنيا وآخره.
سلام
صحيح أن الكثير من الملوك والرؤساء يفتعلون مواقف ويظهرون في مشاهد انسانية وعاطفية لتلميع صورتهم وزيادة شعبيتهم، ولكن الحالة مع أردوغان مختلفة فقد أثبت الرجل أنه مفعم بالمشاعر الأنسانية فعندما تذرف دموعه على مقتل بنت البلتاجي لم يكن في مشهد تمثيلي ونفس الشيء عندما يذهب لمخيمات الروهنغا ويعطف على الأطفال فهو صادق في انفعالاته وله الكثير من المواقف التي تثبت بأن الرجل يحمل رسالة انسانية تتعدى حدود الشعب التركي.