مع اقتراب عمر الربيع العربي، الذي بدأ في تونس ومر بمصر فليبيا فاليمن ثم المشرق العربي من أربع سنوات، بات من الملح الوقوف على طبيعة نسق الاعلام أو الاتصال الجماهيري، كنسق مجتمعي في حياة الشعوب الحديثة، وتحديد الدور الحقيقي لهذا النسق، وكيفية صناعته والبحث عن مكوناته وفواعله وطرق التحكم فيه والتأثير فيه وعليه وبه.
قبل الربيع العربي اتسم الاعلام بطبيعة كل نظام على حدة، ففي تونس عرف بإعلام «بن علي» نسبة للرئيس زين العابدين بن علي، وهو إعلام اتسم بتعظيم الحاكم ودوره ومهاجمة خصومه والنيل منه، وفي ليبيا عرف لون واحد من الاعلام، هو اعلام ثورة الفاتح، الذي كان بعيدا كل البعد عن المفهوم الحضاري الحديث لفكرة الاعلام ودوره. أما مصر فقد استطاع الصحافيون فيها انتزاع قدر غير قليل من الحرية والنقاش، بالاضافة إلى إعلام الدولة الذي لم يختلف عن اعلام بن علي أو القذافي، لكن بعد الثورة، واتساع حجم ودور الاعلام في القرار السياسي، وضخ أموال ضخمة إليه بكافة أنواعه وأشكاله، بدأت فكرة « انتزاع الحرية « من نظام حسني مبارك، تثير الريبة وتوجب التدقيق فيها، من حيث كونها حرية منتزعة فعلا بفعل نضالي من قبل الصحافيين، أو أنها كانت منحة في إطار دور تلعبه أجهزة الأمن والاستخبارات في نظام مبارك، لايجاد نوع من التنفيس لدى الشعب واضفاء مظهر ديمقراطي على النظام القمعي، الذي كان يهتم بالشكل الحديث في جوانبه خوفا من انتقادات الغرب.
الأمر في سوريا لم يختلف الأمر كثيرا عن ليبيا أو تونس وأيضا في دول الخليج. فور انطلاق الثورة المصرية أخذ الاعلام يتراجع أمام الغضب الجماهيري القوي، وبدأت القنوات المملوكة للدولة ولرجال أعمال، بالضرورة مستفيدين من النظام، في فتح المساحات للحديث عن اسقاط النظام وتغييره، وظلم الدولة وفسادها في محاولة لامتصاص الثورة والتعامل مع المتغير الطارئ، الذي لم يكن في الحسبان، ولركوب موجة التغيير التي جاءت بغتة، وأدت إلى طرد الكثير من الاعلاميين والمشاهير من ميدان التحرير، بسبب مواقفهم السياسية، وهو ما فهم وقتها أن الثوار في الميدان من النوع غير المسيطر عليه اعلاميا، وغير القابلين لأي محاولة من التدليس عليهم، من أناس كانوا ضدهم ورغبوا في ما بعد نفاقهم واظهار انتمائهم للثورة.
خلال عام الرئيس محمد مرسي اتضح جليا لأي مراقب متخصص، وحتى غير متخصص أن وسائل الاعلام أصبحت تؤدي دورا غير المفترض أن تؤديه، وهو الرقابة والتوعية والترفيه وغيرها من الوظائف التي يعرفها أي طالب في بداية دراسته للاعلام، لكن هذه الوسائل التي ضخت فيها أموال ضخمة، خاصة من دول الخليج التي أيدت الانقلاب في ما بعد، وبالأخص السعودية والامارات، اتخذت دورا مغاير تماما وغير منوط بها استخدامه، وأصبحت فاعلا سياسيا وليس وسائل إعلام مهنية، يمكن قبولها من جميع الأطراف السياسية في المجتمع.
وسائل الاعلام في عهد الرئيس محمد مرسي بات واضحا أنها تأتمر بأمر واحد ويتم توجيهها وجهة واحدة، اتضح في ما بعد من هو الموجه لهذه الوسائل عندما خرج تسريب لقائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي، يتحدث فيه عن ضياع هيبة المؤسسة العسكرية وبناء أذرع اعلامية للسيطرة بها على الدولة والشعب. استغلت هذه الوسائل المناخ غير المسبوق من الحرية، وراحت تنشر أخبارا وتتبني قضايا هي في الحقيقة وهمية، وبنت أجندة إعلامية متشابهة إلى حد قريب، وصدرت حركات وشخصيات وتيارات لا وزن حقيقيا لها، لتهيئة الأجواء والشعب للانقلاب العسكري.
هذه القضايا التي اكتشف المصريون أنها كانت قضايا مضللة ووهمية وغير موجودة إطلاقا على أرض الواقع، مثل قضية بيع الأهرامات أو بيع خيرت الشاطر «نائب المرشد العام للاخوان المسلمين» لشبه جزيرة سيناء للرئيس الأمريكي باراك أوباما، أو تخلي الرئيس مرسي عن مثلث حلايب وشلاتين للسودان، أو بيع قناة السويس لدولة قطر، أو قضايا اجتماعية مثل مضاجعة الوداع أو تزويج القاصرات في سن السابعة، أو خطاب مرسي لرئيس اسرائيل الذي كتب بأسلوب روتيني كبقية رؤساء الدول، لكن كلمة صديقي العزيزالتي جاءت فيه تم استغلالها وتصيدها بسوء نية. كل هذه القضايا أثبتت أن وسائل الاعلام في مصر لم تكن في الحقيقة وسائل إعلام وانما وسائل دعاية، توجب إعادة النظر في دور الاعلام والتفرقة بينه وبين الدعاية. فمشهد الثلاثين من يونيو/حزيران وما سبقه من أحداث وما تلاه بين أن الأمر برمته كان صورة اعلامية لا أكثر ولا أقل، حتى ان كان خرج للميادين عدد لا بأس به من الأشخاص.
بدأت المسرحية وأكبر عملية نصب في التاريخ المصري الحديث، بتصوير المتظاهرين في ميدان التحرير ورابعة العدوية وغيرها من الأماكن، والتدليس بتركيب الصور ونسبتها لفئة واحدة هي المعارضة لمحمد مرسي، وكما تم تزييف الصور، تم اللعب على الأرقام وتكرارها واستقر رقم 33 مليون متظاهر في ميدان التحرير في هذا اليوم، بالاضافة إلى عدة أماكن أخرى، وهو رقم يفوق المنطق والعقل والخيال أيضا، ويمكن دحضه من قبل أي شخص يتوقف برهة للتفكر في حقيقته، لكن استخدامه والتركيز عليه جعل الكثيرون يرددونه، وتبين أن الناس يصدقون الاعلام أكثر مما يصدقون أنفسهم، وظهر ذلك في ما بعد عندما يردد الشخص أنه لا توجد مظاهرات مناهضة للانقلاب، واذا وجدت لا يتعدى عددها العشرات، بينما تمر امام الشخص نفسه مظاهرة في حارة أو شارع شعبي، وهي تضم الالاف، لكنه يرفض تصديق نفسه وعينيه، ويفضل تصديق وسائل الدعاية التي سيطرت على عقله وذهنه، وهذا ما سيحدث لاحقا في الانتخابات الرئاسية بعد الانقلاب التي غاب الشعب عنها وأكد أنصار 30 يونيو أنفسهم ذلك، لكن قطاعا كبيرا منهم فضل تصديق وسائل الدعاية التي قالت ان 26 مليونا شاركوا فيها.
بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز واغلاق كافة المنابر ووسائل الاعلام التابعة للقوى والتيارات الديمقراطية الرافضة للانقلاب، بات من الضروري اعادة النظر في وسائل الاعلام ودورها، واجراء دراسات على جمهورها، فنظرية الرصاصة أو الطلقة السحرية التي كانت أولى نظريات علم الاعلام قبل قرن مضي، وأصبحت وفقا للغالبية الساحقة من العلماء والدارسين من نظريات الماضي، باعتبارها تقوم على اعتبار الجمهور المتلقي متشابها وقابلا لتصديق كل ما يأتي في الرسالة الاعلامية، ظهر أنها قابلة للتطبيق على أنصار 30 يونيو في مصر 2013 وما يليه، فلا يمكن تصديق بأي صورة من الصور أن اعتصاما لجزء من الناس يحتوي على أسلحة كيماوية محرمة دولية، ولا تمتلكها إلا جيوش الدول الكبرى، ناهيك عن فكرة وجود كرة أرضية تحت منصة ميدان رابعة العدوية. وغيرها من القضايا التي لا يمكن أن يتصورها عقل سليم لطفل حظه قليل من التجارب والخبرة في الحياة.
دور الاعلام الخطير في الوقت الحالي والأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وكونه جزءا كبيرا وأساسيا إن لم يكن الغالب في النزاعات الموجودة، يجب ألا يتم التعامل معه بطريقة عادية أو اهماله كنسق اجتماعي غير مؤثر على الأرض، كما يحدث من قبل الرافضين للانقلاب العسكري في مصر. فامتلاك الحق والتأييد الشعبي الحقيقي والأنصار، يجب أن يكون معه إعلام قوي ومؤثر يصنع القضايا ويعيد ترتيب الأجندة ويشكل الرأي العام. لذلك فانه بات من الضروري الاقتراب أكثر من هذا النسق والوقوف على جوانب القصور والضعف فيها للعمل على اصلاحها وجعلها اضافة قوية ومهمة بجانب الحراك الثوري في الشارع. الأمر بالطبع ليس مقتصرا على مصر وانما كافة دول الربيع العربي التي تواجه باعلام ممول من قوى اقليمية ودولية تريد وأد حقها في الحرية والديمقراطية.
٭ صحافي وباحث مصري
أحمد القاعود
ال33 مليون او اكثر الذين خرجوا ضد حكم المرشد لم يكونوا فقط فى القاهره او ميدان التحرير انما كانوا فى كل قرى و مدن مصر