هذه البلاد التي منذ سنوات قليلة وفي أعقاب تفجير إرهابي في كنيسة (كنيسة القديسين في مدينة الإسكندرية) بدت وكأنها تستفيق باحثة عن حاضر مغاير وتنفض عن نفسها أعباء الاستبداد وغياب العدالة الاجتماعية وانتهاكات حقوق الإنسان، ها أنتم وبعد أن اغتلتم محاولتها للانتقال الديمقراطي تفرضون عليها يوميات الجنون والفاشية والعنف وتستنسخون مجددا المشاهد المؤلمة للدماء والأشلاء والدمار في كنيسة (الكنيسة البطرسية في مدينة القاهرة).
هذه البلاد التي منذ سنوات قليلة تخطت قطاعات واسعة من مواطنيها المسيحيين أسوار الكنائس وتجاوزت الاعتماد الأحادي على حماية يوفرها الحاكم المستبد وتحررت من مخاوفها لتنخرط بشيء من الثقة وشيء من التفاؤل في المجال السياسي والفضاء العام دفاعا عن حقوق المواطنة المتساوية وطلبا لإنهاء التمييز الطائفي وتجريم ممارساته ومشاركة في بناء وطن حر، ها أنتم تنتهكون حقهم الأصيل في دور عبادة أمنة بعد أن أعدتموهم إلى التمترس وراء السلطة الكنسية والتعويل على دور «الجنرال المخلص» في مواجهة العنف الطائفي وتزجون بهم مجددا إلى خانات الخوف من المجتمع والانسحاب منه.
هذه البلاد التي منذ سنوات قليلة امتلك مجتمعها المدني شجاعة الحديث عن أولوية الفصل بين الديني والسياسي وبين العسكري ـ الأمني والسياسي وطرح تصورات محددة بشأن عصرنة الأطر الدستورية والقانونية لتحقيق ذلك وطور مبادرات محددة للتعامل السلمي والعادل مع العنف والتمييز الطائفيين (كمبادرة الإنذار المبكر التي صيغت في 2011 و2012)، ها أنتم عرضتموها لدستور يخلط بين الديني والسياسي ويعطي المؤسسة العسكرية والأمنية وضعية استثنائية (دستور 2012) ثم استبدلتموه بنص دستوري وإن فصل بين الديني والسياسي إلا أن أبقى على الوضعية الاستثنائية للعسكري والأمني وقضى بالتبعية على فرص مساءلة ومحاسبة العسكريين والأمنيين المتورطين في انتهاكات طائفية للحقوق والحريات كمذبحة ماسبيرو (2011)، وها أنتم تنزعون عن مجتمعها المدني المحاصر القدرة على تقديم حلول تنتصر لقيم المواطنة وتواجه العنف والتمييز.
هذه البلاد التي منذ سنوات قليلة انتفض شبابها معارضة للتعذيب (قتل الشاب السكندري خالد سعيد تعذيبا) والتحق بشبابها في الميادين قطاعات شعبية واسعة جمعت محدودي الدخل والمنتمين إلى الطبقة الوسطى وضمت سكان الحضر والريف واحتوتها إرادة التغيير داعية إلى إيقاف انتهاكات الحقوق والحريات والانفتاح على إدارة سلمية وتشاركية للعلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة عمادها الديمقراطية وحكم القانون وتطبيق منظومة للعدالة الانتقالية تعوض ضحايا انتهاكات الماضي وتحول دون الإفلات من العقاب، ها أنتم استدرجتموها إلى هاوية العنف والقمع (قتلا وتعذيبا واختفاء قسريا وكشوفا للعذرية) وأخضعتموها للاستقطاب الطبقي بين الفقراء ومحدودي الدخل وبين متوسطي الحال وميسوريه وللاستقطاب الطائفي بين رجعيين مدفوعين بأوهام ديكتاتوريات الأغلبية المسلمة وبين خائفين بين المواطنين المسيحيين والبهائيين والملحدين، ثم إذا بكم منذ 2013 وإلى اليوم تمارسون لعبة فرق تسد، الطبقية والطائفية وتروجون لجنون التشفي وفاشية الانتقام عوضا عن صون الحقوق والحريات ووضع حلول شاملة للإرهاب والعنف تمزج بين الأمني وبين المجتمعي والسياسي والفكري والثقافي.
إلى أين تأخذون بلادي؟ مصر المنتفضة بين 2004 و2011، مصر حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير وحركة 6 ابريل وغيرها من الحركات المطالبة سلميا بالانتقال الديمقراطي وبحقوق المواطنة المتساوية والرافضة للعنف، ليست كمصر التي تغيرون وجهها اليوم بتجديد دماء الاستبداد.
مصر الثائرة في 2011 بعد تفجير كنيسة القديسين وجريمة قتل خالد سعيد، مصر الانفتاح على تغيير دستوري وقانوني وسياسي يصون الحقوق والحريات ويثق المصري المسيحي بها قبل المصري المسلم في شرعية بحثه عن المساواة الكاملة، ليست كمصر التي تغيرون وجهها اليوم بجرائم وانتهاكات غير مسبوقة للحقوق والحريات وبترويج للخوف من الآخر الديني.
مصر المقبلة في 2011 و2012 على صناديق الاقتراع استفتاء وانتخابا برلمانيا ورئاسيا، وبمشاركة غير مسبوقة لمواطنيها المسيحيين في الاستفتاءات والانتخابات وفيما تحلق حولها من أحزاب وبرامج وشخصيات سياسية، ليست كمصر التي تغيرون وجهها اليوم بصناديق الاقتراع محدودة معدلات المشاركة الشعبية ومحسومة النتائج سلفا «للجنرال المخلص» وللمكون العسكري ـ الأمني الداعم له ومرشحيه في الانتخابات. مصر المدافعة بين 2011 و2013 عن سلمية مشاركة مواطنيها في المجال السياسي وخروجهم إلى الفضاء العام وعن حتمية مساءلة ومحاسبة المتورطين في العنف الرسمي كما في الإرهاب والعنف الأهلي، ليست كمصر التي تغيرون وجهها اليوم بإغلاق للمجال السياسي وعنف في الفضاء العام وإعلام يعمم الجنون والفاشية وبدوائر العنف الرسمي والعنف الأهلي التي تعتاش عليها جماعات الإرهاب كتلك التي ارتكبت جريمة كنيسة البطرسية الآثمة.
إلى أين يأخذونك يا مصر؟ هم، من مكون عسكري ـ أمني يتذرع بالاستقرار والأمن القومي وحماية الدولة والحرب على الإرهاب للبقاء في الحكم وإطالة عمر الاستبداد الذي أعادوه في 2013؛ هم، من قوى دينية رجعية حادت بين 2011 و2013 عن أولويات الانتقال الديمقراطي وأرادت خلطا دائما بين الدين والسياسة ورغبت في شراكة الاستبداد مع المكون العسكري ـ الأمني وخضعت لأوهام ديكتاتورية الأغلبية لتخيف المصريين المسيحيين والبهائيين والملحدين ومعهم كل الباحثين عن فصل بين الدين والسياسة وصياغة لنظام علماني يصون الحقوق والحريات الدينية ويواجه التمييز؛ هم، من قوى تدعي الانتماء للفكرة الليبرالية ولليسار الديمقراطي تورطت بين 2011 و2013 في ممارسات عقيمة وحسابات صغيرة قللت من فرص الانتقال الديمقراطي ثم تحالفت بعد انقلاب 2013 مع المكون العسكري ـ الأمني لتذبح مبادئ التداول السلمي للسلطة وحكم القانون ولتتعامل بمعايير مزدوجة مع انتهاكات الحقوق والحريات؛ هم جميعا إلى أين يأخذونك يا مصر ونحن عن الدفاع عن وجهك الحقيقي عاجزون؟
يدميني الجزع والحزن عليك يا بلادي، يدميني العجز وأنا في هذه بلاد الجانب الآخر ليس لدي سوى صرخة تتكرر ويتكرر غياب المنصتين، يدميني الخوف من المآلات الصعبة للاستبداد والفاشية والعنف التي تقضي على إنسانيتنا وتزج بنا إلى هاوية لا صعود قريب بعدها.
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
من الإنصاف والعدل يا أستاذ حمزاوي حفظكم الله ذكر المحاسن التي أوجدها دستور 2012 الذي تم الإستفتاء عليه وليس المساوئ فقط
والسؤال هو :
ألم يكن الشعب المصري يحب العسكر في ذلك الوقت ؟ ألم يطالب قادة سياسيين بتدخل العسكر بالحياة السياسية ؟
وأخيراً ألم يساند الشعب الذي خرج بيوم 30-6-2013 الأسود إنقلاب السيسي في يوم 3-7- 2013 ؟
شعب يساند إنقلاب عسكري دموي هو شعب لا يستحق الحرية أبدا – مقولة للكروي داود !
ولا حول ولا قوة الا بالله
المثقفون والنخبة هم من اجهضوا الثورة العظيمة بمعارضتهم الزعيم المنتخب الرييس محمد مرسي فك الله اسره. المعارضة بزعامة جبهة الخراب هم من ضيع الثورة بتكاتفهم مع العسكر . لا ينفع الندم الان يا اخي المحترم.
مقال رائع كالعادة من الاستاذ عمرو حمزاوى.أضف للتاريخ أسم المرحومة ان شاء الله “شيماء السباغ.
سؤال متأخر جدا. الوطن أصبح مخطوفا. النخبة السياسية كلها بتقاعسها او جبتها أو تامرها و نفاقها هي السبب في تدهور البلد إلى الحضيض.
مرحبا بك حمزواى الى قاعة المنادين بالحرية والديمقراطية…رغم انك كنت ضمن من هاجم حكومة مرسي …من اعتذر عن ذنبه فلا ذنب له
ستنتصر قيم الحرية وحقوق الإنسان والمساواة , علي قوى الشر والإستعباد والفساد والإفقار والتجهيل , بدون أدني شك , السؤال هو متي وبأى ثمن ؟ .
مقال معبر، لكن للأسف فات الميعاد و بقينا بعاد، و النار ادت، دخان و رماد فات الميعاد