وجهت قنوات تليفزيونية مصرية خاصة سهامها إلى حَمَلة الجنسية المزدوجة، وتناول هذا الموضوع ومعالجته يحتاج قدرا عاليا من الموضوعية، نتعرف خلالها على بداياته وما آل إليه وما يمكن اقتراحه سبيلا للمعالجة. من البداية يجب تجنب حملات «طحن الهواء» التي تقوم على الصوت العالي والتخويف والكلام المرسل، وتتجاهل قضايا جوهرية وحيوية، وكأنها موظفة لشد الأنظار بعيدا عن قوافل الفلول العائدة والعاملة على استغلال المؤتمر الاقتصادي، الذي بدأ أمس في منتجع شرم الشيخ، لتكريس التبعية، ورهن مصر أرضا وبحرا وجوا، لحساب الدول والشركات والمؤسسات والأجنبية!
ويقع عبء المسؤولية في قضية ازدواج الجنسية على حكومات تعاقبت على مصر من بداية سبعينات القرن الماضي وحتى الآن. وحين يأتي إعلام الفلول ويستثمرها مادة للإثارة، علينا النظر إلى الثروة التي يعتمد عليه هذا الإعلام في حملته، وكلها مدفوعة من دوائر كانت وما زالت عاملة لحساب جمال مبارك. وقد كان وما زال من حملة الجنسية المزدوجة، وكانت صحيفتا «القدس العربي» و»العربي» المصرية أول من نشر تفاصيل إزدواج جنسية عائلة مبارك، وذلك قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011 بسنوات، وبعد الثورة فُتح الملف بكل تفاصيله، والحملة من قبيل الشهادة المجروحة، لم تراع قاعدة بسيطة ومعروفة تقول: «من يسكن بيتا من زجاج عليه ألا يقذف الناس بالحجارة»!
وهذه الحكومات مسؤولة أولا وأخيرا عن دفع المصريين إلى البحث عن حياة أفضل خارج بلدهم. والمخضرمون تابعوا حالة الانتظار التي عاشها الشباب عام 1971، وتعلقهم بوعد السادات لدخول المعركة العسكرية لـ»إزالة آثار العدوان». وانتهى العام دون الوفاء بذلك الوعد. واشتعلت الجامعات بالمظاهرات، وانتشرت صحف الحائط الساخرة والناقدة لحكمه والضاغطة بشدة لدخول المعركة، وخفت الضغوط مع لحظة عبور قناة السويس في اكتوبر/تشرين الأول 1973، وذلك لم يستمر طويلا.
وبدأ استكشاف مرامي المعركة وخذلان السياسة لانتصارات السلاح وتضحيات الشهداء، وظهور نوايا تخلي الدولة عن وظيفتها الاجتماعية، التي اعتادت عليها منذ القدم، وجمع السادات «جرحى ثورة 1952»، وكانوا جيشه المعتمد لولوج عصر انفتاح عشوائي، تخلص فيه من دور ونفوذ الطبقات الوسطى والمنتجة والفاعلة في المجتمع، وأخرج صحفيين «مؤمركين» من الكهوف وأعادهم من المنافي، وسلمهم مسؤولية الصحف الحكومية، فإداروها لحسابه، وقادوا حملاته الضارية ضد عبد الناصر وعصره، وتولوا تحريض الشباب على الهجرة.
ويفيد هنا الإطلاع على أرشيف كتابات أولاد أمين (علي ومصطفى) وتلاميذهما في «أخبار اليوم» ثم «الأهرام» بعد إزاحة محمد حسنين هيكل. والحكايات المكررة عن الشاب المصري الذي يهاجر، ويعمل لدى صاحب فندق، لديه ابنة وحيدة، وبعد فترة يموت صاحب الفندق وترث الابنة ثروته الضخمة، وتطلب من الشاب المصري مساعدتها، ثم تتزوجه، وتقاسمه الثروة، وينتقل من حال إلى حال، ويصير من كبار رجال الأعمال!
تحول جمع المال، أيا كان مصدره، في تلك المرحلة، إلى قيمة عليا، وتراجع معها الاهتمام بالعلم والثقافة والعمل والإنتاج. قيمة المال ما زالت معتمدة في الدعاية السياسية الرسمية، وما زال سعار «الأثرياء الجدد» غير المعتاد، يعقر كل من يتعرض لمخططهم. وكان التعليم والعلم أساس «الحراك الاجتماعي»، وأضحى المال منفردا بديلا، ومصدرا للجبروت والنفوذ والتوحش، وعكست أفلام تلك الفترة ذلك الحال، حيث يعمل جامع القمامة الثري على شراء كل شيء بماله، ويتقدم طلبا ليد ابنة أستاذ الجامعة، وليس معنى التعرض لهذا تقليلا من قيمة عمل جامع القمامة، بقدر ما هو دليل على انقلاب الأوضاع.
وإذا كانت الظروف الاقتصادية المصطنعة قد أجبرت الشباب على الهجرة خارج البلاد، فقد صاحب ذلك احتقان اجتماعي وطائفي متفاقم في الداخل، فالحكومات التي تعاملت مع الشباب بهذا الشكل وضغطت عليه للهجرة، تخلت عن التزاماتها تجاه الشعب وحرمته من حقوقه الطبيعية، حقا بعد آخر، الحرمان من حق التعليم، وحق العلاج والصحة، وحق العمل، وحق السكن، وحق الرعاية في العجز والشيخوخة. وكلما زاد الحرمان زاد الاحتقان وخرج المصريون من بلدهم أفواجا، وصلت الملايين.
ولم تعر الحكومات المتعاقبة هذه الملايين المهاجرة اهتماما، واعتبرتها كما مهملا، وفقدت الشعور بأي مسؤولية تجاهها. واستمر هذا الوضع حتى ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وكانت الأهمية الوحيدة المعطاة للمصريين في الخارج هي أنهم مصدر للتحويلات المالية والعملة الصعبة. أما التعامل مع الكتاب والمثقفين والمفكرين، ومن على شاكلتهم، لم تكتف فيه تلك الحكومات بالإهمال وزادت عليه الملاحقة والتشكيك في المواقف والحكم بالنوايا، وسلالة المحرضين على هجرة الشباب في السابق، وتحويل مصر إلى بلد طارد لأبنائها، غير مرحب بأشقائها وأصدقائها، هذه السلالة هي نفسها التي توجه سهامها إلى حملة الجنسية المزدوجة الآن.
ونقر بأن الخطر من الجنسية المزدوجة قائم، والمثل الواضح هو خطر منطوق القَسَم الخاص بالجنسية الأمريكية، وتطابقه مع القسم الصهيوني، ومع ذلك فإن الذين يوجهون السهام لحَمَلة الجنسية المزدوجة يتعاملون بألف معيار، يلعنونهم ليل نهار، ويهللون لأحمد زويل، حامل الجنسية الأمريكية، والحاصل على جائزة من تل أبيب، والمساهم في تطوير الصواريخ الصهيونية، حين يأتي إلى مصر يمنح الامتيازات، وتقام له الأفراح والليالي الملاح، وأطلق عليها البعض «ليالي مولد سيدي زويل»، وهذه خطايا لم تمنع اختياره مستشارا علميا للرئيس السيسي!
المقيمون في البلاد العربية لا تقابلهم مشكلة ازدواج جنسية، فهذه بلاد لا تمنح جنسيتها لأحد تقريبا، وليست لديهم مشكلة سوى استمرار نظام «الكفيل»، ويتمنى الإنسان أن يكف العرب عن التشدد مع بعضهم البعض، ويساعدوا الوافدين والمقيمين في أي من أقطارهم ويمكنوهم من الاستقرار والاندماج، خدمة وحماية للثقافة والهوية في البلاد الأقل سكانا، والتي تواجه خللا في التركيبة السكانية.
وإذا كان عدد المصريين في الخارج يقدر بعشرة ملايين، فالغالبية منهم تقيم في بلاد النفط الشقيقة، وهؤلاء يبلغون حوالى 8 ملايين نسمة، ويبقى المقيمون في أوروبا واستراليا وكندا والولايات المتحدة، وهذه الدول – ما عدا ألمانيا – تمنحهم حق الحصول على الجنسية، وهم في حدود 20٪ من المصريين خارج مصر. أي حوالي مليوني نسمة. ومن يمنح منهم الجنسية بجانب جنسيته الأصلية، انطبقت عليه الشروط المطلوبة، من مدة الإقامة اللازمة، وممارسة عمل مشروع، والتزام بالقانون وبالنظم المتبعة، وبحسن السير والسلوك، وبدفع الضرائب بانتظام. بجانب أن كثيرا منهم برع وبرز في مجاله وتخصصه.
والجنسية لا تمنح لمن لا تتوفر فيه هذه الشروط، من المقيمين غير الشرعيين، ولا الطلاب أو الدبلوماسيين، ومن يُستثنى منهم يخضع للفحص والتدقيق، ويعامل وفق قوانين اللجوء، وبذلك تتوفر الشروط المطلوبة في الاستقامة والالتزام، ويعني هذا أنهم لم يتجاوزوا في حق بلدهم ولا في حق بلد المهجر، ومنهم من تطلع إلى العودة لبلده. لكن الصعوبات والملاحقات وتزايد الاحتقان أفقدهم الأمل في العودة، وحين لاح ذلك الأمل بعد ثورة يناير/كانون الثاني، عادت أفواجهم إلى مصر، رغم طول البقاء والحياة المستقرة التي تمتعوا بها. وكان الأولى بإعلام الفلول التعامل معهم بالقانون والاحترام اللازم على أحد قاعدتين:
الأولى.. الضوابط القانونية.. والقانون الدولي يتيح الفرصة للمعاملة بالمثل، فازدواج الجنسية لا يجب أن يكون مهددا للأمن الوطني والقومى، وإذا كان كذلك، كالحال مع الجنسية الصهيونية مثلا، فعلى الرغم استمرار التزام بمعاهدة «كامب ديفيد» وتوابعها، ووجود رغبة في عدم فتح جبهات أخرى في الظرف الراهن، فعلى الأقل يجب اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنبيه طالب السفر أو الهجرة إليها بإمكانية إسقاط جنسيته. والشيء نفسه يُتخذ مع المقيمين والمهاجرين إلى أمريكا، وكشف الأثار المترتبة على أداء قسم الولاء الأمريكي، وتُحمل حامل الجنسية الأمريكية المسؤولية الكاملة عن هذه الآثار التي قد تحرمه من حقوق تتعارض مع ذلك القسم، ودوام الاحتكام للقانون لمعالجة هذه الأثار.
الثانية.. على الدولة أن تحسم أمرها من الهجرة وصداع الجنسية المزدوجة، وتخفف من اعتماد اقتصادها على تصدير العمالة للحصول على العملات الصعبة، وتعود إلى ما كانت عليه قبل سبعينات القرن الماضي، وتمنع المصريين من الجمع بين جنسيتين، والمخالف تسقط جنسيته تلقائيا!
وعن موقفي الشخصي كحامل لجنسية أخرى لم تبق مساحة كافية للتطرق إليه، خاصة وقد فاتحني البعض في دخول الانتخابات النيابية، وقد تتوفر المساحة مستقبلا.
٭ كاتب من مصر يقيم في لندن
محمد عبد الحكم دياب