عام 1988 – أي قبل إغماضة عين من انهيار معسكر الديمقراطيات الشعبية»» – كتب المؤرخ والمفكر المتميز هشام جعيّط، في دراسة نشرتها مجلة «ديبا» الفكرية الفرنسية، أن أبرز ما يسترعي انتباهه في ما يقرؤه من كتابات كثيرة لمثقفي أوروبا الشرقية هو «ذكاؤهم المتوقد»، وأضاف قائلا: «إن هذا الذكاء يخيفني بعض الشىء، لأني أرى فيه تعبيرا عن شقاء تاريخي».
وبما أننا دخلنا عصرا غرائبيا حالك الظلام ما كان ليخطر لأحد ببال، فقد أخذت أرى تعبيرات الشقاء التاريخي ذاته في ما يكتبه بعض المفكرين والمؤرخين الغربيين. كتابات وإصدارات كثيرة تشي كلها بعمق الوعي بمكمن المأساة في التاريخ عموما، وبقوة استشعار وقوع الكارثة قريبا. وقد يكون المفكر السياسي جون غراي هو أول المثقفين الأنغلوساكسون أرقا بهذا الهمّ وأبلغهم تعبيرا عنه. أما المثقفون الفرنسيون، فإن من أبرزهم في هذا الشأن الشيخ التسعيني المؤرخ مارك فرّو، وباحث العلاقات الدولية بيار هاسنر، والمفكر اللامع ذو الأسلوب الآسر ريجيس دوبري، إضافة إلى أستاذ العلاقات الدولية دومينيك موازي الذي يحظى بشهرة نسبية في بريطانيا بحكم أنه يدرّس في جامعة لندن منذ سنين.
ينطلق مارك فرّو في كتابه الصادر قبل أشهر بعنوان «التعامي: تاريخ آخر لعالمنا» من سؤال عميق في بساطته: «لماذا نحن عمي كل هذا العمى أمام الواقع؟» لماذا تعجز الإنسانية في معظم الحالات عن رؤية الحقائق العيانية الماثلة، ناهيك عن أن ترى قدوم ما هو قادم؟ ويتخذ المؤرخ من موضوعة التعامي هذه مفتاحا للولوج إلى كل ما هو مفاجىء في التاريخ. ذلك أن تعاقب المفجآت السيئة في السنوات الأخيرة إنما يجعل العالم يبدو كأنه يجري مجرى الكوارث المتسارعة والمتصلة في سلسلة واحدة. يكفي اعتبار أحداث مثل أزمة اللاجئين، والحروب الأهلية العربية الناجمة عن استعداد أنظمة الاستبداد لإحراق البلاد على أن تترك الحكم، والناجمة بالقدر ذاته عن ركوب حركات التطرف (المسمى دينيا) موجة الثورات الشعبية السلمية، والأزمة المالية العالمية الناجمة عن أزمة الإقراض العقاري الأمريكي، وهجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وبروز الصين قوة عالمية عظمى، وانهيار جدار برلين.
إن كل هذه الأحداث المعاصرة التي فاجأت الإنسانية تسلط الضوء، حسب قول فرّو، على «عجزنا عن أن نتصور التاريخ ونفكر فيه خارج القماشات الوسيعة والرؤى الكبرى التي ما هي في حقيقة الأمر سوى المصادر الرئيسية لحالات العمى أو التعامي: (..) رؤى مثل أن التاريخ هو قصة التقدم الإنساني ومساره، أو أن التاريخ دورات عودا على بدء، أو أن التاريخ قد انتهى» (بمعنى أن التقدم الإنساني سياسيا واقتصاديا قد بلغ تمامه في التعيّنات الغربية للنظام الديمقراطي الليبرالي وأن ليس لبقية الإنسانية ما تقدر على – أو تطمح إلى – فعله سوى الاجتهاد في مقاربة المثال). ومعنى هذا أن الترسيمات التفسيرية الكبرى التي كان يفترض أن تساعد المؤرخين على فهم معنى التاريخ (أو اتجاهه) إنما هي التي تفضي بهم، بعكس المفترض تماما، إلى الخطأ في الفهم.
ولكن الأكبر والأخطر من أخطاء المؤرخين هي أخطاء الحكام وأصحاب القرار. أخطاء مثل: استبعاد القيادة العسكرية الأمريكية أي هجوم ياباني على بيرل هاربر أثناء الحرب العالمية الثانية، أو رفض ستالين تصديق معلومات الجاسوس ريشارد سورج بشأن موعد هجوم جيش هيتلر على الاتحاد السوفييتي. أما أخطر الأخطاء على الإطلاق، فإنها حالات التعامي الجماعي الناجم عن إنكار الحقائق: مثل حالة الابتهاج التي استولت على الشعب الألماني يوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1918 اعتقادا منه (بسبب سطوة الديماغوجيا والبروباغاندا) بأن ألمانيا هي التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، أو استبشار الفرنسيين والبريطانيين عام 1938 اعتقادا منهم أن دالادييه وتشامبرلين قد أنقذا السلام بعد لقاء هتلر في ميونيخ.
هل لحالات التعامي الجماعي عن رؤية الحقائق أسباب؟ نعم، إن لإنكار الواقع أسبابا يمكن تلمّسها في دراسات علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي. وهذا ما يؤكد مجددا تميز اللحظة التأسيسية الخلدونية، التي تمثلت، قبل ستة قرون، في بناء علم التاريخ على أسس علوم العمران البشري والاجتماع الإنساني.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
” سيدي عمار بوسنة أراح أراح أبايا “. تلك القصائد منذ الصغر وهي تتلا في زردة ” سيدي عمار ” بالشابية حيث تنصب الخيام ويتجمع الناس كل مجموعة حول قصعة كسكسي مرصع بصماصيم من لحم الضأن ومسقى بمرق الفول والقرع، يقطين، ويلتقي الغني مع الفقير ويحل التوازرية على أهل الشابية من خلال مهرجان يقام كل سنة رغم هبوب العجاج ضمن معظم فعاليته التي دأب أناس على إحياء الزرد التي بدأت تنقرض. تلك الإحتفالات لم تغب عن ذهن الذين اجبروا على تحرير فرنسا من الإحتلال الألماني فكانت ” كاليه ” شاهدة على بطولات التوانسة آنذاك ولم تعترف بعد فرنسا بمزايا التوانسة الذين فيما بعد وهم الصناديد قد حرروا تونس من الإستعمار الفرنسي. وقد شهد العالم وفرنسا نفسها على مدى شجاعة وقوة التوانسة واستبسالهم في التصدي للإرهاب. وبذلك أصبحت تونس يهاب جانبها ولو أرادت لإستعمرت فرنسا بكل روح رياضية. وعليه يجب أن يقرأ لتونس الثورة حسابا بعد أن رسخت لها قدما في ديمقراطية حديثة.