هل أصبح على العرب أن ينفضوا أيديهم من أية محاولة جادة في بناء استراتيجية جامعة لشتاتهم السياسي، وقابلة لاستعادة دفاع أخير عن بقايا وجودهم في أوطانهم. هل تخلوا عن أسمائهم الأممية لكي يُنادى عليهم بأسماء مِلَلَهم ونحلهم وحدها.
هل لم يتبق َّ لمعظمهم ثمة من نشاط سوى المشي زرافات ووحداناً في مواكب الجنازات نهاراً، وحضور مجالس العزاء مساء. هل يمكن القول أن أخصب مشاريع النهضة العربية قد كان مصيرها إلى بناء المقابر القومية وإنجاب ساحاتها البائدة إلى ما لا نهاية.
هل لم يعد يمكن توصيف ُ العرب إلا بكونهم شعوباً تنتمي إلى أمة معاقة. وإن إعاقتها هي من طبيعة بنيوية تكوينية، ناجمة عن جملة عاهات خلقية أو مكتسبة، لكنها فاعلة مزمنة، عصية على المعالجة. تلك العاهات التي لا ينفك أكثرها عن مفاجأة معاصريها بأجيال مرعبة من مشتقات الفظائع المنكرة حتى لدى أصحابها الهُمْج الأصليين… وهكذا قد يأخذنا جلد ُ الذات وتعنيفها إلى ما لانهاية له من احتقار ذات النفس، بل والتنصل أحياناً من هويتنا العامة، خاصة في بيئات الاغتراب.
وفي اللحظة الراهنة التي تقف المنطقة فيها إزاء الأخطر من مفترق الطرق المؤدية إلى المجاهل، المصحوبة ربما بأصعب المآزق الوجودية وليس السياسية وحدها، فإن جميع القوى الرئيسية المتحكمة في المنطقة، أمست مضطرة، وكل منها على طريقتها، ما بعد الإتفاقية النووية بين إيران والغرب، إلى إعادة النظر حتى في مبادئ عقائدها فكرياً وسياسياً وأمنياً. فهذه الاتفاقية شبيهة إلى حد بعيد بإنتاج مرحلة انتقال دولية وإقليمية كما لو كانت نهاية لحرب عالمية. كما لو أن المجتمع الدولي أمسى مضطراً إلى إعادة بناء نظامه العالمي. ما يعني أن ما كان صالحاً وسارياً في العلاقات الدولية وقواعدها ما قبل الاتفاقية لن يظل هو نفسه لما بعدَها، كأنها استبدلت القنبلة النووية بقنبلة استراتيجية أخرى ستكون لها حاكميتها في الشؤون السياسية الكبرى لعالم الغد.
والدائرة الأولى والمركزية لهذه الانطلاقة الجديدة هي المنطقة العربية الإسلامية، فهي المنخرطة حتى الآن تحت تأثيرات وحيدة الجانب ما بين فكي الجدلية الإيرانية، بين فعلها ورد فعلها. ولسوف تبقى هي عينها هذه الحالة من الهيمنة شبه الفردية على مصير قارة العرب والمسلمين، ما دام معظم هؤلاء أسرى لتدابير الآخرين الإيرانيين بما يفعلونه بحق مصائر جيرانهم العرب.
أحداث هذه الدائرة تمارس مركزيتها فيما يتجاوز جغرافيتها المادية. وبما يدعم توصيفها بالمركزية نسبة إلى استمرار تأثيراتها الحاسمة وتصاعدها في توازنات النظام العالمي. فما زال ثمة تقييمات تفاضلية تُعطى للدولة العظمى بناء على ما لها من نفوذ أكبر في الشرق الأوسط؛ وقد أصبح ذلك التقدير من أهم مقاييس الدبلوماسيات الدولية المتداولة لدى نخبة ملاك المصائر الكونية في العصر الراهن. فالغرب لن يتخلّى عن مستعمراته القديمة. لقد أبدل احتلال أوطانها من قبل جيوشه (الوطنية)، بإعادة احتلالها ولكن من قبل جيوش مستعمراته السابقة عبْرَ دُولها الناشئة لمرحلة ما بعد الجلاء الأجنبي، والشروع في إنتاج وبناء ما يسمى بدولة الاستقلال الوطني. فما كان يفعله الغرب منذ ستة عقود إزاء صعود مستعمراته القديمة إلى مصاف ّ الدول المستقلة الجديدة لن يكون أبداً تصالحاً بين أعداء الأمس من أجل أن يصيروا أصدقاء َ اليوم والغد، بقدر ما سيكون همّهم إمعاناً في إحكام التبعية وتجديدها بالاستثمارات الحديثة. فالتعلق الأمريكي الأوروبي بقارة العرب والإسلام تطورت ظروفه التقليدية من حال الأوضاع الاستقطابية الحادة معها إلى ما يسمى بأحوال التوافقات المبدئية ما بين الدول الأنداد، دون أن تكون أبداً متعادلة ومتوازنة في السيادة والاستقلال. فإن ازدواجية هذه العلاقة شرقاً وغرباً، ظلت لها حاكميتها تحت مختلف صيغ المفاهيم الإيجابية المعلنة، من مثل التعاون والتضامن والتحالف، حتى مفهوم الشراكة، وقد أصبح يلوكه أقطاب السياسات الخارجية للدول العظمى في تعاطيهم مع زبائنهم الشرقيين، كأنه اعتذار لفظي أخلاقي عما يستبطنه من استغلال فعلي.
لعل آخر ابتكارات هذه الشراكة المشبوهة، وربما أخطرها كذلك بالنسبة إلى محيطها العربي على الأقل، هي هذه الاتفاقية الدولية حقاً ما بين كل من جناحي الغرب معاً، أوروبا وأمريكا، مع إحدى أكبر الدول الإسلامية الصاعدة في ضاحية الشرق الأوسط، إيران. فعلى ضوء مقولة الشراكة يتطلّع مهندسو الاتفاقية من الأمريكيين خاصة إلى منح إيران صفة الشريكة دون أن يروا في ذلك أية غضاضة. كأنهم بذلك ينتزعون هذا البلد الكبير من بيئته الطبيعية والتاريخية، وجعلها تنقلب على ثوابت هذه البيئة؛ ذلك يعني استعادة إيران إلى صميم النظام الاقتصادي للعولمة التي يعتبرها الغرب معجزته الحضارية الخاصة معممة ً على العالم كله. هذا الالتزام الإيراني بالدور العولمي الأول في قارة العرب والإسلام، لن يكون مجرد خيار سياسي بل نتيجة حتمية لواقع الشراكة في حال انخراطها بتنفيذ بنود الاتفاقية. بمعنى أن أية عرقلة لإجراءات العولمة سينعكس إحباطاً لمسيرة الإتفاقية عملياً.
هذه الأبعاد الاستراتيجية خافية حتى الآن على معظم التحليل السياسي المتداول في الشرق. وأما هنا في الغرب فالتصريح بالحقائق له طقوسه الخاصة. والرأي السائد هو نتاج الترحيب المصلحي المباشر، لكن العارفين بالأسرار الكونية، وهم النخبة المتميزة، فقد ينشرون رموزاً متناثرة حول الأحداث الفاصلة من وقت إلى آخر.
فالبعض منهم لا يعفّ عن تقدير أهمية الإتفاقية معتبراً إياها أشبه بالاتفاقيات المعقودة في نهاية الحروب الكونية. إنها تعلن عن موت نظام عالمي وتدشين آخر على حطامه.
فهل سوف يُبتنى هذا النظام المنتظر مثل سالفه على ثورة اقتصادية محركها الأول هو الاستعمار مجدداً. وهل صار ممكناً لبعض من هم من أصحاب الفكر المتحرر في الغرب أن يروا في الشراكة الإيرانية استعادة للإستعمار القديم الجديد، ولكن بأحدث تهاويل الشراكات العملاقة المتآلفة المتنافسة حول ملكيات الثروات العظمى بموادها الأولية الأساسية للعصور ما بعد الصناعية..
لن تتوقف التحليلات عند منعطف في مسيرة الاتفاقية إلا لتعاود بث الأفكار المتضاربة حول خطوات قائمة أو قادمة. والواقع أن الاتفاقية لا تزال حبراً على ورق. ليس ثمة بند أول واضح للشروع في الحركة المرتقبة. فالأحكام الكلامية تسابق الوقائع، بل ربما تعيقها أو تؤخرها، أو قد تعرضها للتعديلات المسبقة على كل صياغة نهائية. إنها رحلة التنفيذ التي هي أصعب وأعقد من مرحلة التفاوض. ذلك أن الآتي من العلاقات ستكون سجالاً بين التفاوض والتنفيذ معاً؛ فالفعاليتان بقدر ما هما متكاملتان، فقد تناقض أهدافهما الآنية على الأقل. بينما يبدو حكام إيران على عجلة من أمر رفع العقوبات الاقتصادية، أو الشروع في التخلص منها ولو تدريجياً: فإن الغربيين سوف يلعب مسؤوليهم على هذا المحور طويلاً، فالزمن قد لا يكون في خدمة الطرفين بصورة عادلة.
هنالك مسافات شاسعة تفصل النتائج العملية عن مقدماتها. خلالها قد تتغير أمور كثيرة. لن تفيد التنبؤات الطارئة. لكن الرأي العام العربي، والدولي سيظل كل منهما متأرجحاً بين موقفي الترقب والتدخل. والتغيرات الكبرى الموصوفة بالانعطافات المصيرية لن تكون صناعة سهلة لقطب دون الآخر. حتى اليوم كان التوقيع على الاتفاقية حدثاً دولياً وانعطافياً، هذا لا شك فيه. غير أن تنفيذ الاتفاقية ستكون له انعطافاته هو الآخر. لن يعرفها أحد قبل أن تغدو وقائعها مضيئة تحت شمس الحقيقة..
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي