منذ أن قرأت «اختراع العزلة»، تلك الرواية البديعة، أو السيرة الذاتية الجميلة للكاتب الأمريكي المعروف بول أوستر، والصادرة عن منشورات المتوسط هذا العام، بترجمة محترمة لسامر أبو هواش، وأتوق إلى اختراع عزلة ما، عزلة ربما كتابية أو اجتماعية، أو إنسانية، أو مجرد عزلة قد تسفر عن وقائع ما أو لا تسفر عن شيء. ذلك أن صياغة العالم في عزلة أوستر كانت مغوية جدا بالرغم من كآبته.
صحيح أن الأحداث داخل النص الطويل نسبيا ليست متسارعة، ولا مشوقة كثيرا، لكن مجرد وجود أحداث قد تتخيلها كقارئ وتتوقع حدوثها بين لحظة وأخرى وأنت تزحف بين الصفحات، يجعلك في حالة تشويق دائم، ذلك النوع من التشويق الذي تشارك فيه، حين تشك في وجود لغز، وغالبا ما يكون كذلك. وكنت داخل هذه الحالة نفسها وأنا أقرأ «ظل الريح» للإسباني زافون، وأفكر أن الصفحات المحتشدة بغير المشوق هذه، لا بد ستقود إلى شيء مشوق في أي لحظة.
نحن هنا في بداية النعي، نعي الوالد أوستر الأب الذي توفي ذات يوم في بيته من دون أن يترك أي فراغ صغير أو كبير في حياة الابن الذي كان متزوجا ويعيش بعيدا، والزوجة أو الأم التي تركته منذ سنوات طويلة، وذهبت إلى حياة أخرى بعيدة. إنه رجل منعزل، بورتريه صامت في الغالب، جاف وغريب وتقريبا غير مرئي في حياة أسرته المشتتة، حتى حين كان يعولها، ويتولى زمام الأمور. وقد اختصرت تلك العلاقة مع الابن بعد أن تزوج، وانتقل للحياة في مدينة أخرى، إلى لقاءات محدودة في مناسبات متباعدة، مثل عيد من الأعياد، ومثل ولادة طفل في أسرة الابن الصغيرة. وبرغم محدودية تلك اللقاءات، إلا أن الأب لا يكاد يبين فيها حتى وهو جالس بين الجميع، ولا يكاد صوته يسمح بوضوح حتى حين يتحدث أو يضحك، وإن حدث ومد يده ليربت على رأس حفيد مثلا، فهو يفعل ذلك بتردد وإحساس بالخيبة، كأنه يسرق شيئا لا يخصه، كأنه يمارس فعلا شائنا.
سنرى أن الابن يذهب إلى بيت والده بعد أن توفى، ليشرف على تصفية ما كان موجودا في البيت الكبير القديم من أثاث وملابس وأوراق وصور ولوحات معبرة وغير معبرة، وأشياء كثيرة تراكمت بفعل الزمن، وغياب من يتولى ترتيبها ويقرر إن كانت تصلح لتبقى، أو تلقى في القمامة.
هو يبحث في الحقيقة، عن ذكريات والده، وذكرياته مع والده وأخته، ويقبض بالكاد على مواقف هزيلة ومتداعية ولا ترقى لتكون ذكريات أبدا. إنها حصيلة لا شيء من رجل كان في الواقع لا أحد، ولن يكون أحدا مؤكدا بعد أن مات. فسؤاله المتردد عن صحة مولود جاء في الأسرة مثلا، لن يرتقي ليكون سؤالا، وبحثه عن علاج غير طبي لابنته الهزيلة التي تحتاج لعلاج طبي بالفعل، هو نشاط بطيء وغير كفء لإنقاذ حياة فرد في الأسرة. أيضا دعمه المفترض الذي لم يحدث قط، لن يكون ذكريات تأتي من العدم بالتأكيد، وستكون مهمة الإشراف على تصفية ما تركه إذن، مهمة جافة، عادية، تخلو من الحزن المفترض، ومن أي إحساس قد يحسه الابن، وهو يمحو مكونات البيت القديم.
بالطبع تتشعب القصة، وتقفز إلى ماضي الأب مع أبيه وأمه، الذي يعثر عليه الراوي الابن داخل صورة أزيل منها الجد، ويتعرف بالتالي على أحداث بعيدة، فيها حب وكره وغيرة وجريمة قتل. ويضطر الراوي أو الكاتب للبحث في ذلك الماضي بجدية ليتعرف إلى أسرة كان مستقبلها الذي هو حاضر والده بعد ذلك، متوقعا ليكون بهذه الطريقة المؤسفة. فقد قتلت الجدة الجد، منذ أكثر من ستين عاما، أطلقت عليه الرصاص في مطبخ منزلها في إحدى الأمسيات على خلفية غيرة أو حب أو مشاكل اقتصادية، لا أحد يعرف.
الذي حدث أن بول أوستر، وبما هو معروف عنه من كتابة تفاصيل دقيقة، أعمل قلمه في هذه الرواية السيرة، وأجاد، وسواء كان ما كتب داخل النص خيالا أم وقائع حدثت بالفعل، فإن فعل التأطير المرئي لما هو ليس مرئيا وبهذه البراعة يعد إنجازا. وأعرف أن كثيرا من الكتاب، خاصة من يملكون خيالا واسعا، وإمكانيات خلق عوالم متشعبة، تقفز أبنيتها فوق كل التوقعات، يستطيعون صياغة حقائق ليست حقائق في الواقع. وكثيرا ما تواجهني شخصيا أسئلة من الذين يتابعون كتابتي، عن الحقيقة والخيال في تلك الكتابة، وأرد في كل مرة أن ما أكتبه رواية، فهو رواية ليست من الواقع، وما أكتبه سيرة يظل واقعيا لكن غرابة بعض الأشياء داخله تحيله إلى فنتازيا في أذهان كثيرين من القراء.
لذلك لن أدقق في ما كتبه بول أوستر في ذلك البورتريه الغريب الكئيب للأب غير المرئي تقريبا، فأنا أعرف أن فيه حقائق انطلق منها الكاتب مثل وجود أب انطوائي، غريب الأطوار لا تعرف حالات فرحه من حزنه، إضافة إلى بعده التام عم كل ما يجعله اجتماعيا أو محتكا بأحد. سأستمر في إبداء إعجابي بالرواية، وأيضا بمعظم ما كتبه بول أوستر خاصة «ثلاثية نيويورك»، و»قصر القمر»، و»مستر فيرتيغو» التي ترجمها بإتقان الزميل عبد المقصود عبد الكريم مؤخرا، وإن كنت أختلف مع أوستر في كثرة التفاصيل، التي قد تبدو مملة في كثير من الأحيان حتى لو كتبت بعناية وبجمل مغرية في تذوقها.
هناك دائما ثمة حد بين كتابة التفاصيل، والإغراق في كتابة التفاصيل، وأي كاتب يود أن يصل عمله للناس من المفترض أن يعتني بالتفاصيل، وفقط لا تأخذه تلك العناية إلى الإكثار من ذلك، مثلما نلاحظ في كتابات الأتراك الجميلة، لكن المملة أحيانا.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
شكرا دكتور على هذا العرض لرواية اوستر
العزلة ضرورية لمعرفة الذات والفوص في ثنايا النفس فان لم تعرف نفسك من الصعب ان تعرف الاخرين