عقب خديعة الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية للثورة العربية الكبرى المشخصة في اتفاقيات سايكس بيكو، وملاحقها عام 1916، وما استتبعها من مفاعيل لوعد بلفور عام 1917، تم التخليق الاعتباطي للبنيان الجغرافي والكيانات السياسية في العراق وبلاد الشام، بما يتوافق مع احتياجات المستعمرين، بدون أن ينبني ذلك على أساس موضوعي تاريخي أو ديموغرافي.
وكان ذلك لأسباب لوجستية محضة، كما كان في تبادل الإنكليز والفرنسيين السيطرة على دير الزور والموصل، حيث كانت الأخيرة من حصة الفرنسيين، حسب اتفاقيات سايكس بيكو، واستبدلوها بدير الزور مع الإنكليز لإراحة المستعمرين من الحاجة لخطوط إمداد طويلة، فصارت الموصل عراقية وصارت دير الزور سورية، وأسباب أخرى شيطانية في جوهرها وظاهرها، كما في اصطناع الفرنسيين لدولة لبنان الكبير لمن يعرف ولا يتناسى حقائق التاريخ. وتركت تلك الحالة الشوهاء جغرافياً وسياسياً مفاعيلها لتشتغل تاريخياً وموضوعياً في إعاقة تكوين أي هويات وطنية لأبناء أرض الرافدين وبلاد الشام. فالحدود الوطنية التي يعيشون فيها لا تنسجم مع التاريخ الواقعي والاجتماعي والاقتصادي والبشري لتلك الدول. وهو ما أبقى تلك المفاعيل في حالة إرهاصات كامنة كالجمر تحت الرماد، تنتظر الآوان الملائم لتعبر عن نفسها بدون مواربة، كما في حالة الزلزال الداعشي الذي يكاد أن يبتلع بلاد الشام والرافدين وأهلهما مجتمعين.
ويستطيع المتابع لسياقات ما يحدث في العراق وسورية راهناً تلمس عدم رغبة المارد العسكري الأمريكي، إن لم نقل ممانعته فعلياً، لأي جهد فعلي يمكن أن يؤدي إلى استئصال تلك الحالة الداعشية، سواءً بتقديم دعم فعلي للمعارضة السورية أو تسليح عشائر الأنبار، أو حتى تقديم غطاء جوي لتلك الأخيرة في دفاعها عن أرضها، في الوقت الذي يبدو للكثير من المراقبين بأنها تقوم بذلك لصالح قوات «داعش» في الكثير من الأحيان.
وعلى عكس الكثير من المراقبين الذين يرون أن هناك تخبطاً في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية، فإن الوقائع تشير بغير ذلك، وتشير إلى أن السياسة الأمريكية منضبطة الخطى، وتسير في نهج لا يراد التصريح به، وإن كانت آثاره جلية في الإفصاح عن نفسها حتى الآن، والتي يمكن إيجاز محاورها الأساسية كما يلي:
أولاً: يمثل الكيان الداعشي حاجة عضوية للنظام السياسي الأمريكي، الذي لا يستطيع أن يعتاش بدون وجود عدو يتم تضخيمه حتى يراه المواطن الأمريكي يكاد يبتلع الولايات المتحدة بأكملها، سواء كان ذلك الاتحاد السوفييتي، أو القذافي، أو صدام حسين، أو تنظيم «القاعدة»، أو «داعش» راهناً، حيث أن النظام السياسي والاقتصادي للإمبراطورية الأمريكية يقوم على سيطرة حديدية للمجمع الصناعي العسكري المالي في الولايات المتحدة على كل مفاصل الدولة، من خلال التحكم شبه المطلق في تحديد إمكانيات فوز هذا المرشح أو ذاك لمجلس النواب أو الشيوخ، أو حتى رئاسة الولايات المتحدة، ليقوم بعد ذلك بدوره المناط به في تشريع وقوننة كيفية تحويل الجبايات الضريبية الهائلة التي تجمعها الدولة من مئات الملايين من مواطني الولايات المتحدة وجيش العمال المسحوقين فيها، إلى المجمع الصناعي العسكري المالي، الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة، بذريعة تعزيز القوة الرادعة والدفاعية للولايات المتحدة تجاه ذلك العدو الافتراضي المختلق في كثير من الأحيان، والمُعَملق في جميعها.
ثانياً: ترى الولايات المتحدة في فوائض عوائد النفط التي راكمتها دول الخليج العربي خلال العقود الماضية، التي تبلغ في أحسن أحوالها أربعة تريليونات دولار، فطيرة شهية لابد من دفع الأعراب لتقديمها، سواءً برضاهم أو عنوة إلى الولايات المتحدة، ممثلة بخزائن الاتحاد الفيدرالي، وسنداته الخاسرة، وديونه الوطنية التي تكاد تتجاوز عنان السماء، لتقوم عقب ذلك بتحويلها إلى الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة، وفق شروط تكوين الطبقة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة التي عرجنا عليها آنفاً. ولتحقيق ذلك يجب دفع التوازن السياسي الهش في المنطقة العربية إلى المرحلة التي تمثل تهديداً وجودياً لكيان دول الخليج العربي، بالشكل الذي تمثله راهناً الحالة الداعشية عسكرياً وإيديولوجياً، بالتوازي مع انعدام شبه مطلق للخيارات البديلة لدى تلك الدول، التي اعتقدت طويلاً بصلابة تحالفاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وعدم تبدلها بتغير الأحوال، وهو ما أثبت الواقع عكسه في الاتفاق النووي الأمريكي الايراني كحد أدنى، وهو ما سوف يستدعي من دول الخليج فتح خزائنها لرشوة المارد الأمريكي عله يتدخل فعلياً لتحييد التهديد الوجودي الذي تستشعره، أو اضطرارها للتدخل فعلياً بحك جلدها بنفسها، كما يحدث في مستنقع اليمن الحزين، وهو ما سوف يقتضي استنزافاً طويلاً لقدرات وإمكانيات الدول العربية الخليجية المحدودة لأسباب موضوعية وذاتية، تتعلق جوهرياً بتشكيلها الوطني البنيوي والوظيفي، بالشكل الذي حدده مستعمروها في سايكس بيكو، والذي سيقود موضوعياً في نهاية المطاف إلى الضرورة بقبول استيلاء الأمريكان على ثروات الأجيال العربية القادمة، مقابل انتشالها من المستنقع اليمني واستنساخاته المحتملة في غير موضع عربي وخليجي، لعدم وجود بدائل فعلية وملموسة لدى تلك الدول، سوى القبول بذلك وفق معادلات وموازين القوة الراهنة.
ثالثاً: شخَّص مشروع جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي لتقسيم العراق ملخصاً واضحاً لما رآه، كناطق مفوه باسم العقيدة السياسية الأمريكية الراسخة، بأنه يمثل حرفياً استراتيجية للنصر الأمريكي، وهو ما تم التمهيد له بالانسحاب المتعجل للأمريكان كمحتلين من العراق، وتسليمه مضعفاً إلى درجة التمزيق إلى الإيرانيين، ليكملوا ما ابتدأه الأمريكان في تهشيم العراق مجتمعاً ودولةً، وتسعير الشقاقات المذهبية والاحتراب الطائفي الذي يمثل «داعش» تمظهره الأكثر فجاجةً.
نعم لم يلاقِ المشروع الأمريكي قبولاً لدى العراقيين، كما هو الحال في رفض السوريين على اختلاف توجهاتهم لمبدأ تقسيم الوطن السوري، ولذلك كان لابد من استنباط قوة ثالثة تستطيع تحقيق ذلك المشروع الذي لا يمثل في جوهره استراتيجية للنصر الأمريكي، حسب التعبير الذي لا لبس أو مواربة فيه لنائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، وإنما استراتيجية لانتصار الكيان الصهيوني، وإعادة هيكلة مفاعيل سايكس بيكو، بتشكيل كيانات هي دول فاشلة في جوهرها، هويتها الأساسية دينية ومذهبية، مما يخلق مبرراً لوجود الكيان الصهيوني كآخر معقل للفصل العنصري على أساس ديني في العالم، وهو الذي ما زال يفتقده منذ تأسيسه، وهو ما يبدو أن السياسة الأمريكية عازمة على تخليقه واقعياً وهي ترتدي قفازاتها الناعمة البيضاء.
٭ كاتب سوري
د. مصعب قاسم عزاوي
، بتشكيل كيانات هي دول فاشلة في جوهرها، هويتها الأساسية دينية ومذهبية، مما يخلق مبرراً لوجود الكيان الصهيوني كآخر معقل للفصل العنصري على أساس ديني في العالم، وهو الذي ما زال يفتقده منذ تأسيسه،
– انتهى الاقتباس –
صح لسانك يا دكتور مصعب – فعلا هذا هو السيناريو الجديد للمنطقة
ولا حول ولا قوة الا بالله
ومن كان يمنع البعثيين العروبيين الوحدويين صدام حسين وحافظ أسد من إقامة دولة واحدة بين البلدين؟ هل سايكس وبيكو كانا يمناعنهما؟ هل اسرائيل هي التي تجبر بشار الاسد بالقاء البراميل المتفجرة على المدنيين؟ هل أمريكا هي التي تعلم الاسلاميين تقاليد الغزو والسبي والذبح ؟