تقع اسطنبول بين بحرين، وتنتشر على قارتين لكنها مدينة كونية طابعها عالمي وهي صورة مصغرة عن أعرق وأهم الحضارات الإنسانية، يجد فيها السائح ما يشتهي ويريد. زرتها في المرة الأولى قبل 23 سنة وقد تجدد اللقاء معها وزادت متعة الإقامة فيها لاسيما أن طقسا ربيعيا سادها رغم أننا في عز الصيف.
تضاعفت قيمة الدولار أمام الليرة التركية بيد أن حالة الازدهار الاقتصادي تتجلى بوفرة وثراء خيراتها وأسواقها وبحركتها السياحية ونشاطها التجاري الواسع جدا. هي مدة قصيرة جدا في تاريخ هذه المدينة العملاقة العريقة لكنها كافية لأن تتغير وبدت وكأنها شهدت عملية تجميل حتى بانت أكثر شبابا وجاذبية بفعل أعمال عمران، وصيانة وترميم لعمارتها ومنشآتها وآثارها. اللافت تغطية المؤسسات العامة والمساجد بالرايات التركية العملاقة إذ صادفت الذكرى السنوية الأولى لمحاولة الانقلاب الفاشلة.
أسواق عملاقة
ما تعرضه هذه المدينة العريقة من زاد البطون والذهون يكاد يكون نادرا في أماكن أخرى وربما هذا ما يفسر تدافع ملايين السائحين عليها كل عام رغم الهواجس الأمنية. وفي مثل هذه الفترة تبدو ليالي اسطنبول كليالي العيد، فالناس تملأ الشوارع وتكتظ ضفاف مضيق البوسفور بالمتنزهين والباحثين عن قارب لسهرة أو جولة بحرية جميلة للتعرف على مفاتن المدينة، أما المقاهي فهي الأخرى مزدحمة وقبالة بعضها يقف الرواد الجدد في طابور انتظارا لمقعد يشغر كما في مقاهي جبل أيوب الذي تم بلوغه بواسطة التيليفريك. ورغم أن المدينة باتت عالمية وضخمة إذ صارت عبارة عن سلسلة مدن لكن الحركة فيها سهلة جدا بفضل مواصلات متطورة ومتيسرة.
ويعرف الأتراك استغلال الثروة السياحية بتشكيلة واسعة جدا من الخدمات ويحولون التجارة إلى فن، فحتى بائع البوظة يجعل من نفسه مهرجا ويجتذبك بلباقة. كما في سوق الحميدية في دمشق حيث تنتشر أكشاك كثيرة في اسطنبول تعد فيها البوظة يدويا. وكما في القاهرة، وتونس، ودمشق وغيرها يقع في قلب المدينة السوق الكبير ومنه تتفرع عدة أسواق ينطبق على كل منها القول «أطلب واتمنى» من عصائر البرتقال إلى عصير حب البركة (الحبة السوداء) أما البهارات فهي تبدو لكثرتها وتنوعها كلوحة الفسيفساء الجميلة ورائحتها تملأ الأجواء. كذلك تلفت الأنظار دكاكين الحلويات الشرقية فطالما أن العين هي التي تأكل كما يقول المثل الشعبي فقد حرص أصحابها على تحويل معروضاتها خاصة حلوى «البورما» إلى أهرام حلوة الشكل والمذاق وكأنها تحفة فنية. وهذا شأن بائعي عربات الذرة والكستناء التي تلفت أنظار المارة لأناقتها. في السوق المصري تنتشر على مد النظر محال تجارية تبيع الحلوى والسكاكر والحلقوم التركي بمختلف ألوانه وأشكاله وهو بمذاقات الرمان، والتين، والبرتقال، والبطيخ، والكيوي وغيرها من الثمار.
هبة البوسفور
تتفرد اسطنبول بشقيها الأوروبي والآسيوي على ضفاف مضيق البوسفور بطبيعتها الخلابة المتميزة بلقاء البحر والجبل، خضرتها الدائمة ووفرة مياهها وحدائقها المدهشة تغطي كل أرجائها. القاهرة هبة النيل، قال اليونانيون القدماء واسطنبول هبة البوسفور، فلولاه لما تمتعت بهذا المقدار من الجمال الأخّاذ وبهذه الأهمية الجيوسياسية والسياحية أيضا. المدينتان تجمعهما قواسم مشتركة كثيرة خاصة الثراء الحضاري والامتداد على ضفاف بحر أو نهر، لكن اسطنبول حباها الله بوفرة ماء تساعدها في بقائها جنينة دائمة الخضرة على مدار العام وتمتاز بنظافة شوارعها ومرافقها الكثيرة وبدورة مياه لا تنقطع أبدا. حتى في مثل هذه الأيام التي يزيد تعدادها كل يوم حتى تبلغ نحو 15 مليون نسمة بسبب زرافات السائحين والزائرين، يجد هؤلاء الحمامات العامة و«سبابيل» الشرب في كل ناحية. لا شك أن الطبيعة النادرة للمكان في موقع يصل البحر الأسود بالأبيض ووفرة مياهها الطبيعية قد شكلت أحد أهم أسباب تأسيسها كمدينة كبيرة منذ العصور القديمة وتوالي الحضارات اللاتينية، والرومانية، والبيزنطية والعثمانية عليها. تم تخليد هذه الحضارات ذاتها ليس فقط بريشة المؤرخين فحسب بل بعمارة مهندسيها وبنائيها حتى تحولت اسطنبول إلى متحف مفتوح كبير يزدان بالقصور، والمساجد، والقلاع والأبراج والجسور ومجمل الآثار التاريخية وكافتها مرآة تعكس عظمة الحضارات المتراكمة هنا. أينما توجهت داخل اسطنبول تلاحظ ورشات ترميم صروح عمرانية كثيرة تنتشر في كل شارع وكل منها شاهد يروي تاريخا عريقا في بلاد توالت عليها الحضارات والغزاة وتزدحم فيها الذكريات.
ولذا وبسبب هذه التشكيلة الواسعة جدا من الآثار العمرانية في مدينة هي عمليا سلسلة مدن أو محافظة تجمع نحو عشرات المقاطعات فيفضل للزائر أن يزور معالمها بالتدريج وفي أكثر من زيارة خوفا من غمط حقها وإضاعة فرصة التمتع بمعاينة كل منها.
الدولمة بهجة
لو رغبت في الاطلاع على تاريخ الدولة العلية وأفعال سلاطينها البارزين لاحتجت ليوم كامل في زيارة الدولمة بهجة، حيث حدائق مبتسمة كأنها رسمت بريشة فنان بارع. بينها وإلى جوارها متاحف تروي سيرة امبراطورية عظيمة حكمها خلفاء وسلاطين أتراك تنافسوا في إنجاز عمارات تبقي الزائر مشدوها تأخذه لحظات التأمل والتفكر في قدرات الإنسان في تشييد ما يشبه المستحيل بعيون فترة لم تشهد بعد الرافعات والماتورات وبقية وسائل التكنولوجية. هذا ناهيك عن عمارات تهدمت بفعل هزات وزلازل شهدتها اسطنبول مرات ومرات وتهدم فيها الكثير من عمارتها. هذا لأن المدينة تقع بالقرب من الصدع الأناضولي الشمالي، الممتد إلى بحر مرمرة، حيث تصطدم الصفيحتان الافريقية والأوراسية ببعضهما البعض على الدوام. كان آخر الهزات في 1999 يوم هدمت الكثير من المنازل في ضواحي اسطنبول وقتلت نحو 18 ألف إنسان وهي هزات تذكّر الإنسان بكونه صغيرا مهما كبر وأنجز أمام عظمة طبيعة لا ترحم عندما تغضب.
المسجد الأزرق
إذا كانت القاهرة مدينة الألف مئذنة فإن اسطنبول هي مدينة المساجد العملاقة الأقرب للتحف الفنية النادرة. ويعتبر مسجد السلطان أحمد واحدا من أجمل وأكبر المساجد في العالم لا في اسطنبول فحسب ويعرف بالمسجد الأزرق بسبب بلاطه الأزرق في جنباته الداخلية وبعظمته ربما ينافسه أو يبزّه مسجد الحمراء الأندلسي. هذا المسجد الذي استغرق تشييده سبع سنوات في مطلع القرن السابع عشر يحوي كبقية المساجد الكبرى رفاة بانيه السلطان أحمد ويشمل مدرسة وتكية وحماما ضخما. المسجد الأشبه بقلعة كبيرة يتربع على قمة رابية مطلة على البوسفور تزيده عظمة على عظمة ست مآذن شاهقة وخمس قباب كبيرة وثماني صغيرة كافتها متقنة. وعقب انتقادات لبناء ست مآذن تشبهّا بالمسجد الحرام في مكة أمر وقتها السلطان أحمد بإضافة مئذنة سابعة على المسجد الحرام قبيل سفره إلى الحج ليكون مسجده هو المسجد الوحيد في اسطنبول وتركيا (حتى وقت بنائه) الذي يحوي ست مآذن.المسجد من الداخل على شكل مستطيل طول ضلعيه 64 م و72 م وتتوسطه قبة كبيرة تحفها أربع أنصاف قباب، كما أن كل ركن من أركان المسجد مغطى بقباب صغيرة فيها عدد كبير من النوافذ المنفذة للضوء وكافتها مغطاة بأعمال فنية فائقة الجمال تزينها آيات قرآنية. ويقع قبالة كنيسة آيا صوفيا التي حولها العثمانيون إلى مسجد بات اليوم متحفا تقف على أعتابه طوابير من الزائرين كل يوم مقابل رسوم دخول طبعا وتفصل بين العمارتين نافورة في غاية الروعة وحديقة تزدان بمختلف صنوف الأزهار وأشجار الأرز. هذا المسجد التحفة مجاور لميدان السباق البيزنطي المزدان بمسلة فرعونية تكاد تكون من عجائب الدنيا ونقلها من بلاد النيل للقسطنطينية قبل نحو 15 قرنا يثير المزيد من الدهشة والعجب.
دموع سورية على أعتاب إسطنبول
في الجهة المعاكسة التقطنا أنفاسنا مع فنجان قهوة تركية وعلى ألحان عزف فرقة تراثية رافقها راقص صوفي مبدع داخل مقهى السلطان وسط الطريق بين الأزرق وبين آيا صوفيا. لم يصرف أنظارنا عن الراقص الصوفي الذي دار حول نفسه وكأنه دولاب سوى زينة، طفلة سورية في العاشرة من عمرها كانت تلف بين جنبات المقهى تتوسل رواده وهي حافية القدمين بعيون جميلة يملؤها الخوف من نادل كان يطردها كلما لحظها. كانت نظرات زينة كافية لاستعادة مأساة الشعب السوري الذي عصفت بهم الأحداث وحولتهم إلى لاجئين يتوسلون الرغيف في مدينة مهما كانت جيرتها حسنة تبقى خالية من بيوتهم. وخلال ذلك يتبادر إلى الذهن السؤال، هل فعلا باتت دمشق تتوسل بدموعها على أعتاب اسطنبول ومتى تجف دمعتها؟ غير أن سوريين كثر وجدوا في اسطنبول فرصة لحماية إنسانيتهم بنجاحهم في الحصول على فرصة للعمل الكريم مستغلين حرفيتهم، ودبلوماسيتهم وحلاوة لسانهم وإتقانهم الترجمة من وإلى التركية. مهران، شاب سوري في الثالثة والعشرين من عمره يعمل في الصباح مسؤولا في الاستقبال داخل فندق وفي المساء في مجال العقارات وذلك ليدخر ما يكفي ليعيش ويساعد شقيقه على الزواج واستئجار شقة علاوة على مساعدة عائلته التي بقيت في دمشق بعدما لجأت لها من درعا نتيجة الأحداث المأساوية. مهران ورغم صغر سنه وربما بسبب ذلك بات يتقن اللغة التركية ويوظفها في تعزيز مكانته كموظف ناهيك عن دماثته وحسن معاملته وهو يمثل حالة واسعة لا نادرة في اسطنبول.
وديع عواودة