اشتراكية بنكهة صينية لسعادة الشعب ومنعة البلاد

انتهت أعمال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، الذي انعقد في قاعة الشعب الكبرى في بيغين بين 18 و24 من أكتوبر بحضور 2280 مندوبا و 74 عضوا مدعوا يمثلون 89 مليون عضو في الحزب المنتشر في كافة مناحي الحياة، في أول دولة في العالم من حيث عدد السكان وثاني دولة من حيث قوة الإقتصاد ورابع دولة من حيث المساحة وصاحبة أكبر جيش في العالم.
وأبدت الصحافة في الولايات المتحدة ومراكز البحوث وجماعات الفكر ومجموعات الضغط اهتماما شديدا بالمؤتمر، وعقدت العديد من الندوات واللقاءات الفكرية لمناقشة نتائج المؤتمر الذي حضره 1818 صحافيا من أنحاء العالم.
لقد لاحظت أن الاهتمام بالمؤتمر في الوطن العربي ضعيف أو معدوم. فقد مر المؤتمر بدون تغطية إعلامية ذات قيمة أو دراسات تحليلية أو برامج حوارية معمقة حول نتائجه، التي قد تحدد توجه الدولة العملاقة، التي تتأهل لاحتلال الموقع الأول في الاقتصاد العالمي، والدولة الأعظم مع نهايات القرن الواحد والعشرين.
وسنحاول أن نمر على أهم ما نتج عن هذا المؤتمر العام، وكيف سيكون حال الصين بعده، وما هي الاتجاهات التي استطاع شي جن بينغ، الأمين العام للحزب، الذي جددت ولايته مرة ثانية، أن يترك بصمته التاريخية على مسيرة الحزب والدولة، ليضاف إلى سجل القادة العظام إلى جانب ماو تسي تونغ ودينع تشاو بينغ.
الحياة الديمقراطية داخل مؤتمرات الحزب الدورية
تأسس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921 وانتشر بسرعة في البلاد ونجح في طرد المحتل الياباني (1937- 1945) وأنهى الحرب الأهلية مع الصينيين الوطنيين الموالين للغرب بقيادة تشيانغ شاي- شيك، وطردهم إلى جزيرة تايوان، ثم أسس جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبرعام 1949 بقيادة ماو تسي تونغ بخمسة ملايين عضو في الحزب مدعومين من جيش التحرير الوطني.
تأسس الحزب على مبادئ الماركسية اللينينة، التي تؤمن بما يسمى «المركزية الديمقراطية» أي حرية الرأي والنقد والتغيير، لكن ضمن الوحدة وعدم قبول الانقسام. كما أقام الحزب علاقات متينة مع الحزب الشيوعي السوفييتي والأحزاب الشيوعية العالمية. لكن الابتعاد عن خط الاتحاد السوفييتي بدأ يتبلور في أوائل السبعينيات، خاصة بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للصين بتاريخ 21 فبراير 1972. بعدها أخذت الصين اتجاها ثالثا يباعد بها عن الدولتين العظميين، لتشق طريقا خاصا بها يقوم على الانفتاح الاقتصادي والتشدد السياسي، أي أن الحزب نفسه هو الذي يقود عملية التحديث الاقتصادي والتنمية الرشيدة وتوسيع دائرة المستفيدين من الازدهار الاقتصادي، الذي انطلق بشكل واسع في عهد الرئيس الأسبق دينغ تشاو بينغ (1978- 1989).
حدد الحزب السن 68 كحد أقصى لعضو المكتب السياسي، فلا تجدد عضويته عند بلوغه هذا السن، كما حدد للأمين العام أن يخدم دورتين فقط لمدة خمس سنوات للدورة. ومارس الحزب حياة ديمقراطية داخله، بحيث تكون الانتخابات لأعضاء اللجنة المركزية سرية للغاية، كما تمارس الانتخابات في المدن والمناطق وبين الأقليات، لإرسال المندوبين إلى المؤتمر الذي ينعقد دوريا مرة كل خمس سنوات. وقد وزعت مسودة وثيقة المؤتمر التاسع عشر، التي أعدتها اللجنة المركزية على الأقاليم، لمناقشتها وتعديلها وإدخال مقترحات جديدة عليها، بحيث تعكس حقيقة توجهات القاعدة الحزبية العريضة، التي انتخبت ممثليها للمؤتمر البالغ عددهم 2300 عضو، ربعهم تقريبا من النساء. وقد استغرق انتخاب أعضاء المؤتمر أكثر من 8 أشهر من نوفمبر 2016 ولغاية يونيو 2017.

نتائج المؤتمر- بناء الصين الحديثة والرغيدة

استمر المؤتمر اسبوعا كاملا، انتخب في نهايته أعضاء اللجنة المركزية وعددهم 205 أعضاء و171 عضوا احتياطيا، وأعضاء المكتب السياسي وعددهم 25 عضوا، ومن بينهم تنتخب اللجنة التنفيذية المكونة من سبعة أعضاء. كما ينتخب أعضاء اللجنة المركزية للانضباط والتفتيش وعددهم 21 عضوا، وهي لجنة على جانب كبير من الأهمية، لإنفاذ القرارات الحزبية ومراقبة مسلكية الأعضاء ومحاربة الفساد، أو استغلال المناصب الحزبية لمنافع شخصية.
في جلسة افتتاح المؤتمر يوم 18 أكتوبر تحدث الأمين العام للحزب، شي جين بينغ، نيابة عن اللجنة المركزية، ودعا جميع أعضاء الحزب الشيوعي الصيني إلى تحقيق الانتصار الحاسم في عملية استكمال بناء مجتمع رغيد بشكل معتدل، وعلى نحو شامل، وإحراز انتصارات عظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد. أضيفت خلال جلسة المؤتمر الختامية أيديولوجية جديدة لبرنامج الحزب للسنوات الخمس المقبلة، أطلق عليها أيديولوجية شي جين بينغ، أو»الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد». وقد صوت المؤتمر بالإجماع على إضافة هذه الأيديولوجية لبرنامج الحزب. وهذه المرة الثالثة التي تضاف أيديولوجية زعيم صيني لبرنامج الحزب، بعد أيديولوجية مؤسس الدولة الحديثة ماو تسى تونغ، والإصلاحي الكبير صاحب نظرية التوسع الصناعي دينغ تشاو بينغ.
تقوم أيديولوجية شي السياسية والعسكرية، التي كرسها الحزب فى دستوره على أساس الاشتراكية العلمية المنطلقة من الماركسية اللينينة، ولكن بنكهة صينية، مستفيدة من أفكار ماو ودينغ وتتكون من أربعة عشر بندا نذكر في ما يلي أهم النقاط فيها:
– يلعب الحزب الشيوعي دورا قياديا في كافة مناحي العمل في الصين، واضعا نصب عينيه المصلحة العليا للشعب؛
– تستمر عملية الإصلاح الشاملة والعميقة في البلاد وتأخذ مسارات التنمية أفكارا ومسارات جديدة قائمة على العلم والاختراع والتجديد والتنمية الخضراء، المنفتحة والمنسقة مركزيا؛
– تحسين حياة الناس ورفاهيتهم هو الهدف الأساسي للتنمية؛
– تعزيز الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، بحيث يكون الشعب هو سيد البلاد. وتتم ممارسة القيم الأساسية للاشتراكية، بما في ذلك الماركسية والشيوعية، ولكن بنكهة صينية؛
– الصين دولة تخضع لسيادة القانون؛
– تعزيز الأمن الوطني وجيش التحرير الشعبي يخضع بطريقة مطلقة لقيادة الحزب الشيوعي؛
– تعزيز نظام الدولة الواحدة، بنظامين مختلفين لهونغ كونغ وماكاو، آخذين بعين الاعتبار الاستمرار نحو الوحدة الاندماجية التامة؛
– تعزيز مبدأ المصير المشترك بين الشعب الصيني وشعوب العالم عن طريق خلق بيئة السلام والتعايش الدولييين.
الدور المقبل للصين
من متابعة أعمال المؤتمر والنتائج التي تمخضت عنه نلاحظ أن الصين بدأت تتقدم بخطى ثابتة نحو دور عالمي أوسع مبني على التعاون لا التنازع، والانضباط لا الفوضى، ومساعدة الدول بدون التدخل في شؤونها، أو فرض نوع من الهمينة على قراراتها. تحترم اتفاقياتها وتلتزم بمواعيدها وتقدم أفضل العروض للتنمية الحديثة دون ابتزاز أو تهديد. لقد أثبت هذا المؤتمر أن هناك قيادة صينية ناضجة خرجت من الانطوائية إلى العالمية. كان دينغ، زعيم التنمية الحديثة، قد طرح في الثمانينيات فكرة «أن على الصين أن تختفي من المشهد قليلا وتطفئ الأضواء على نفسها في السياسة الخارجية إلى أن تزداد قوة ومنعة وتقدما». أما اليوم «بعد قرنين من حرب الأفيون الذي أغرق المملكة الوسطى في مرحلة الأذى والعار، تستعد الصين أن تسترد قوتها وتصعد إلى قمة العالم»، كما قال شي في خطاب اختتام المؤتمر التاسع عشر. وأضاف: «صحيح أننا بحاجة إلى عمل جبار، لكن الصورة الآن واضحة: الصين تستعد الآن لتصبح القوة الاقتصادية الأعظم في العالم، مداخيل الأفراد ستكون عالية، نظام الضمان الاجتماعي سيكون فعالا، حكومة تستجيب لمطالب شعبها وتقوم على خدمته، سياسة نظيفة قائمة على ضمان حقوق الشعب وبلاد جميلة يحبها جميع أبنائها».
باختصار الصين دولة تسير نحو المجد بخطى ثابتة وثقة في النفس وقيادة حكيمة خالية تماما من الفساد، واقتصاد صحي ونمو مطرد وعلاقات دولية صحية مبنية على الاحترام وتبادل المنافع وعدم التدخل. ولا أعتقد أن دولة تنضبط لمثل هذه القواعد سيقف أمام تحقيق أهدافها أي عائق. لقد حان الوقت للدول الغربية المغرورة أن تعترف بأن التجربة الصينية الفريدة لن تفشل لأنها دولة «سلطوية». لتعترف بأنها تجربة ناجحة وإذا ما استمرت على طريق النجاح هذا فلا عائق أمامها أن تحقق المعجزة وتغير العالم بطريقة أفضل من التجربتين السوفيتية الفاشلة والأمريكية القائمة على القهر والخراب والتدخل والهيمنة.
وأخيرا لعل درسا من دروس هذه الدولة المعجزة تصل لشعوب منطقتنا العربية ليقارنوا بين ما يجري في بلادنا من تدمير للموارد وتشتيت للجهود وتمجيد للحاكم الفرد، وما يجري في بلاد قريبة منا تفتح ذراعيها لكل من يريد أن يتعلم.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

اشتراكية بنكهة صينية لسعادة الشعب ومنعة البلاد

د. عبد الحميد صيام

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محسن عون/تونس:

    مثل رائع و درس صاطع، لا يترك لبخيل تعليلا. زرعوا فحصدوا. فالصّين مثلنا عانت من الإستعمار (استقلّت في نفس الوقت مثلنا) و الجهل و الفقر. و انغلقت على نفسها، فلملمت جرحها و دعّمت صرحها، ثمّ انبعث من تحت التّراب، شمسا أبهرت و تُبهر و لو كفر الكافرون. أمّا نحن فبقينا نتبكّي و نتشكّى. عملنا هراء و نضالنا دعاء. نترقّب التّغيير مكتوفي الأيدي طالقي اللّسان ! أمّة “إقرأ” أمّة “إعملوا”، لا تقرأ و لا تعمل !!! شكرا. ما أحوجنا لهذا المثل. أكتب و لا تغب، لا نضب لك قلم. تحيّاتي. سلام

  2. يقول محمد علي حسين:

    مقال ممتاز ما عدا عبارة “….وقيادة حكيمة خالية تماما من الفساد..” و كان الاصح القول “….وقيادة حكيمة خالية نسبيا من الفساد…” لان الفساد موجود في طبيعة الناس.
    كما ان الكاتب الكريم لم يبرز تركيز الصين على التعليم و خاصة من حيث النوع و الذي هو مفتاح التقدم و البحوث و الابتكار و الابداع و التميز

إشترك في قائمتنا البريدية