اقتصاد السوق وأشعة X

حجم الخط
0

«هل سينهار كلّ شيء خلال عشر سنوات؟»، هكذا سار عنوان كتاب صدر قبل خمس سنوات، بتوقيع رجل غير عادي، هو الفرنسي جاك أتالي: المراقب الحصيف لمشهد العولمة الراهن (أي: خرائط التأزّم الاقتصادية والجيو ـ سياسية)؛ الذي كان مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران، فانكشف أمامه الكثير من خفايا السياسة الدولية، خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي؛ ثمّ الاقتصادي البارز، الذي شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد، وُضع تحت تصرّف وإدارة الاتحاد الأوروبي…
كانت سنتان قد انصرمتا على العاصفة المالية الكونية، حين صدر كتاب أتالي، وها أنّ خمس سنوات قد مضت بعد صدوره، فبدا أنّ أزمة اليونان الراهنة ـ وبعدها، حين ستكرّ السبحة، أزمات إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وإيرلندا وأيسلندا… ـ أنصفت معظم أطروحات الكتاب، حتى قبل مضيّ السنوات العشر. كأنّ القارىء الفرنسي كان متعطشاً إلى ما حمله الكتاب من نبوءات كارثية، فباعت الطبعة الأولى عشرات آلاف النسخ؛ خاصة وأنّ توقيت نشرها كان حاسماً تماماً، من حيث التناغم مع حال الرعب العامة، الجَمْعية على نحو أو آخر، إزاء مآزق الاقتصادات الغربية، في المصارف والبورصات، كما في خزائن الدول وديونها العامة.
الدَيْن العامّ في البلدان الغربية الكبرى لم يبلغ هذه المستويات الهائلة إلا في طور الحرب الكونية، حسب رأي أتالي، وبالتالي لم تكن عواقبه على هذه الدرجة من الخطورة في أي يوم، بصدد سيرورة الأنظمة الديمقراطية ذاتها. ولهذا فإنّ العواصف المقبلة، حسب نبوءات أتالي، سوف تكون عاتية على أنظمة الديمقراطية، بالتوازي مع اقتصاداتها السياسية، أو حتى قبلها أيضاً؛ وعلى مفهوم السيادة الوطنية، ليس في قطاعات التخطيط والتنمية والاستثمار وحدها، بل في القرارات الوطنية الكبرى كذلك. الأدهى أنّ مسألة الدين العام هذه لا تكفّ عن التفاقم، بمتواليات تكاد تفلت من كلّ منظومة حسابية، فتخلق التضخم وعجز المدفوعات وضعف القدرة الشرائية، وصولاً إلى الركود بمختلف أنساقه.
وهكذا فإنّ أبسط صورة بأشعة X ، يخضع لها جسم اقتصاد السوق في منطقة اليورو، سوف تكشف أعراض اعتلال عميق في الجسد ذاته، وليس على جلده وقشرته الخارجية فقط؛ وسوف تحدّد، بوضوح صاعق، أخطار الانهيارات التي تتراكم كلّ يوم، وتستفحل محلياً، قبل أن تنتقل إلى أكثر من جوار. ما يتناساه أتالي في المقابل، عن سابق عمد أغلب الظنّ، أنّ القسط الأعظم من جوهر هذا التأزم يخصّ الاجتماع الاقتصادي الفعلي، وحياة البشر اليومية، ومعيش الفئات الفقيرة والوسطى، ومفاعيل البطالة، وانكماش سوق العمل، والغلاء، وتخبّط أنماط الضمان الاجتماعي، وعشرات المشكلات الأخرى، الصغرى والكبرى.
وهذه مسائل صراع طبقي في نهاية المطاف، أياً كانت الأسئلة التي تُطرح على هذا المصطلح القديم، وأياً كان الاتفاق أو الاختلاف حول مضمونه الراهن، في كونه صراعات تناحرية شرسة، لا تتقادم بمعنى الانطواء، بل تتجدد بمعنى اكتساب محتويات راهنة فعلية. وإذا كان أتالي يتعمد إنكار هذه الحقيقة، أو يتجاهلها تماماً ويتغافل عن آثارها، فإنّ سواه من منظّري الاقتصاد، وعلى شاكلته في الهوى النيو ـ ليبرالي، توقفوا عن الاقتداء بخيار النعامة، وأخرجوا الرؤوس من الرمال، لإبصار الواقع على حقيقته، وفي ضوء وقائعه الصارخة.
وتلك خلاصات تعيد المشهد إلى ما هو أعمق، وأبعد أثراً، من نبوءات أتالي وأمثاله، لأنها تتجسد يومياً في حياة،ـ ثمّ مأساة، الملايين؛ في اليونان اليوم، وفي اقتصادات سوق عديدة غداً؛ وما أدنى ذلك الغد!

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية