لن يكون من السهل إقناع الآخر/إلزامه، بأن يستند في تعامله معك إلى أسس عقلانية وموضوعية، وعلى أرضية الحد الأدنى من التفاهم، باعتبار أن مبدأ الاعتراف المتبادل – كما يحدث أن يتوهم البعض- غير ملقى على الطريق، وغير متاح تلقائيا وعفويا لمن لا قِبَل له بالبحث وطرح السؤال، وهو أمر ينسحب على كافة المجتمعات، بما يدعونا إلى ضرورة التخلص من تلك الرؤية المغلوطة، التي تسود المفاهيم المتداولة حول اعتماد العقل والحكمة والعقلانية، في تفسير بعض الظواهر الاجتماعية، خاصة منها تلك التي تهم العلاقات الثقافية والحضارية القائمة بين مجتمعات الجنوب والشمال. فالآخر في هذا السياق، ومهما كانت مرجعيته العرقية والعقائدية، لن يفلح أبدا في استيفاء المعايير المعتمدة في توصيف وتقنين آليات اندماجه، حيث سيظل دائما مهيأ لأن يُحشر في الزاوية، وأن يظل أبدا مثار قلق، ومثار شبهة، من منطلق استئثار الطابع الأمني بهاجس وضع هذه المعايير، التي حالما يتم التأكد من غيابها، يكون الآخر مطالبا بإفراغ المشهد من ظله، حيث لن يكون التظاهر بقبوله، إلا ضمن سياق إرضاء مؤقت لمطلب ظرفي، ذي طبيعة سياسية أو اقتصادية، بما يعني أن التقبل المؤقت للآخر، لا يستند في الواقع إلى أي رؤية عقلانية وفكرية وحضارية، بقدر ما يستند إلى حسابات ظرفية، حيث تصبح للشمبانزي خلسة حظوة استثنائية، بين قطعان الظباء، وحيث تتحول الضباع إلى كائنات جديرة بالمحبة والرعاية، كما ستصبح معاشرتها بالنوم في أسرتها، امتيازا استثنائيا لا يضاهيه أي امتياز محتمل.
على هذا الأساس فقط، يمكن إثارة ذلك التساؤل المضمر في مفهوم التفاهم، المتعلق ضمنيا بفعل النبذ، الذي يستمد التفاهم دلالته الفعلية من إمكانية تجاوزه بفعل ضرورة ما. لأن المفروض في التفاهم، ألا يخضع لأي تبرير اضطراري أو مجاملاتي، وإلا فإنه سيظل أسير حدود استجابته الاضطرارية لمطلب إعلامي عابر، وتكتيكي، خاصة حينما يتعلق الأمر بممارسات محظورة، قد تصدر عن الآخر في فضاء الغير، وتكون متعارضة بشكل جذري مع مدوناته الدينية أو الأخلاقية، أو حينما يتعلق بحضور جرح غائر، ناتج عن صراعات لا تزال محتفظة بطراوة مآسيها في الذاكرة التاريخية. إن تبديد حالة سوء الفهم المنبثقة عن هذا الصنف من الإشكاليات يظل بحاجة إلى حوار عقلاني عميق وهادئ، تلافيا لتقييده بشرط ظرفيته، التي قد تؤدي إلى إكراه الطرف الآخر على تقبل ممارسات، قد تكون منافية للقيم الثقافية والحضارية لهذا القضاء أو ذاك، مما يؤدي إلى تفجير المزيد من التوترات والتناقضات، وهو أمر يستدعي وضع معايير للقضايا والإشكاليات المعنية بالتفاهم، كي لا يظل الأمر سائبا إلى درجة الميوعة. إذ بدون هذه المعايير المتفق عليها وفي حدودها الدنيا، والمندرجة ضمن واجب الاحترام المتبادل للذات الجماعية، سيكون بوسع أي ممارسة، ومهما بلغت درجة انحطاطها، أن تستمد مشروعيتها من شعار سيفقد حتما مصداقيته، إذا لم يكن قائما على أسس فكرية توافقية. فمفهوم التفاهم، ومعه التسامح، المقترن عادة في الذاكرة الدينية خاصة، برفع الحجر عن الأقليات الدينية وحمايتها بما تقتضيه ظروفها من عناية وأريحية، قد يخرج عن نطاقه الطبيعي، كي يشمل كافة الممارسات التي تبدو في عرف هذا أو ذاك، شاذة ومنحرفة. تحضرنا هنا الهرطقة التي كانت شكلا من أشكال التمرد على سلطة العقيدة، باعتبار قدرتها على اتخاذ لبوس مغايرة، معتمِدةً المنهجية ذاتها التي سبق أن حققت من خلالها انشقاقها على مركزية الإجماع. وهو شيء محتمل وقوعه هنا كما هناك، ضمن هرطقة تواصلية وفكرية أو سياسية، قابلة لأن تتحول بشكل أو بآخر إلى أداة هدم وتنكيل. وبالنظر إلى التاريخ الملتبس الذي تتميز به ذاكرة التفاهم، فإن تشويهه وتوظيفه في غير مساراته الحقيقية، يمتلك هو أيضا تاريخه الخاص به، والسبب في ذلك يعود إلى وقوف المصطلح بين حدين متناقضين، حيث يمكن في أي لحظة أن يمارس انقلابه الجذري والتام على ذاته.
عموما، سيظل الآخر شئنا أم أبينا مجرد آخر، لأننا لا يمكن بحال أن نُجمع بشكل تام ومطلق، على المسافة الممتدة بين ما قد يمتلكه من نقط مضيئة أو معتمة. وعلى الرغم من كون اعتمادنا لكل من التفاهم والتسامح والقبول والرفض، إطارا مشتركا للتواصل، إلا أن الخلافات والاختلافات الحتمية القائمة بيننا حول إشكالية تعيين مواقع الحد، تظل سببا وجيها ليس فقط من أجل ربط أواصر تواصل آني، بل أيضا سببا وجيها لإيجاد أرضية مشتركة في اختلافاتها، تخص كافة مستويات التفاهم التي ينبغي اعتمادها في تواصلاتنا، وإلا فإن اختلافاتنا، هنا سوف تتفاقم وتتسع في أفق تجاوز علاقتنا به، إلى علاقة أكثر تعقيدا، تشمل كافة الإشكاليات المرتبطة بهويته، وقد تكون ذريعة لتعميق وتوسيع هوة اللاتفاهم اللاتواصل الفاصلة بيننا، وهي الإستراتيجية المبيتة والمضمرة التي سيظل بموجبها الآخر، مجرد آخر، لا أكثر ولا أقل، حيث سيتأكد لنا أن اشتغالنا حول آلية رفع الحواجز القائمة بيننا، ليس في الواقع سوى حجاب باهت وشفاف يخفي تحفظاتنا وتصدعاتنا الداخلية المفجرة للهيب الصدام.
إن جرثومة الآخر، باعتباره جسدا غريبا، تقيم بشكل جذري في الذات قبل إقامتها فيه. ومن أجل تجاوز حاجز الاغتراب، ستكون مطالبا بتحقيق حظوة الاندماج، سبيلك الأوحد لتقوية إحساسك بالأمان، الذي يعتبر أهم مطلب حضاري في حياتك، وفي مماتك أيضا. وهو نتاج وجود الذات بين ذويها، وبين أشباهها، حيث ليس للآخر أن يكون عدا نسخة مطابقة لأصل قد تكونه أنت، كما يمكن أن أكونه أنا. أصل هو عقيدة، أو عرق، لا ينبغي أن يطوله أي نوع من أنواع التحريف أو التصويب، الذي يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تشويهه، وبالتالي تحويله إلى آخر.
أن تكون محاطا بشروط الأمان، يعني أن لا تكون مهددا باحتمال حدوث أي منع يمكن أن يمتد إلى إيقاع ما من إيقاعات جسدك، فكرك أو روحك وذاكرتك. وهو المنع الذي يؤكد على أنك بصدد حضور مرفوض من قبل الفضاء الذي أنت مرغم على الاندماج فيه. كما يؤكد أن جزءا غير يسير منك، أو أنك بالكامل تنتمي إلى غير ما ينتمي إليه الفضاء الذي أشهر في وجهك شارة المنع. إن تعرضك للمنع، هو الدليل على أنك غير مرغوب فيه، وهو أيضا دعوتك لإعادة النظر في ما تم حظره ومنعه، في أفق استمتاعك بحق اندماجك وتطويقك بالأمان، وبالتالي رفع الحظر عنك، خاصة أن الحظر قابل لأن يتحول في حالة استفحاله إلى أذىً. من هنا، يكون تحقيق الأمان، هو تكييف كينونتك، كي تتماهى سلبا أو إيجابا مع هذا المحيط. أن تكون الشبيه والمطابق للذوات الحافة بك، حتى في الأمية والجهل والتواطؤ مع الضحالة إن أمكن. تحقق التطابق والتشابه في حده المطلوب، هو المؤدي إلى فردوس الاندماج، بما هو خطوة أساسية باتجاه فعل الاحتواء.
الاندماج هنا، يتحول إلى ضرورة اجتماعية وحضارية وإنسانية ملحة، لا شأن لها بمبدأ الاختلاف، لأنه يجبر الكائن على تفعيل حضوره، على خلفية اعتراف المحيط بكفاءاته في التكيف والتماهي. سواء كان هذا المحيط منتميا إلى الجحيم أو إلى الفردوس، مادام هو الذي يرخص لك بالإقامة داخل الملاذ وليس خارجه. تحقيق شرط الاندماج، هو اقتناع سدنة المحيط، بقدرة الذات على التماهي مع ذواتها، مع حضور استعداد تلقائي على التخلص من عنف خصوصية، قد تكون في عرفها مجرد نشاز مرفوض.
الاندماج بهذا المعنى، هو التوحد القسري للقناعات وللغات، هو تعزيز الكثرة. إغناء العدد وتبديد الفراغات القائمة بين الذوات، بملئها أو محوها. إغناء الكتلة، وتحجيم مسافة الفرق، لأن الاندماج هنا لا يتقبل حضور المسافة أو الفرق، كما لا يتقبل فكرة إدمانك لأي نموذج من نماذج الحوار الداخلي.
في قلب هذا الإشكال، تكون السيادة للاندماج المجاني، خاصة الحضاري منه والموسوم بنزوعه النفعي والانتهازي المزيف والكاذب، الذي تحاول الذات أو الجماعة تحقيقه، بدافع توفير شروط أمان واعتراف ملتبس، إلى أقصى حدود الشبهة. إنه الاندماج الهجين، الذي لا يستند إلى أي قناعة فكرية واضحة، والذي يغريك بالاستسلام الأعمى لبؤس رغبة جامحة في أن تكون الآخر، أي ما يشاء الآخر أن تكونه، وأيضا ما يشاء ارتعابك من هول الإقصاء والنفي أن تتفاداه، وأن تكونه.
شاعر و كاتب من المغرب
رشيد المومني
بوركت سي رشيد كلام في الصميم من حيث المعنى والفكر