الأدب صنعة من؟

حجم الخط
16

هل صحيح أن النص أساس لكل عمل إبداعي أو غير إبداعي؟ هل يرتبط سوق العمل اليوم بمدى شطارة الشخص لتسويق نفسه وتسويق بضاعته، ألا يتطلب الأمر من التاجر أن يكون شاعرا قليلا، وقصّاصا قليلا، ليسوّق بضاعته؟ ألا يتطلب الأمر أيضا أن يكون السياسي متقنا للغة ولفن الخطابة وفن تأليف القصص ليستحوذ على رؤوس مستمعيه؟ ألسنا جميعا في حياتنا اليومية نحتاج لقليل من الشعر والنثر وملح الكلام الجميل لنحافظ على علاقتنا؟ أليس الأدب في النهاية هو النواة والقلب ووقود الدماغ الحقيقي لإنتاج أي شيء؟ فلماذا إذن هذا النكران لوظائفه الجليلة وفوائده الجمّة؟
من فبرك في عقولنا أن الأدب وظيفة لإهدار الوقت؟ من أدخله في زقاق الأشياء المنسية، وألبسه لباسا غير لباسه؟ من أوقد النار في باعه الطويل وقد كان سببا لتحضٌّر أمم وتميزها؟
ما أعرفه هو أن المحافل الأدبية تحدث بعيدا عن الإنسان العادي، مثل أفراح الدراويش في مواسم جنونهم، يلتقي فيها الأدباء ويفرغون مخزون قلقهم بشأن أمورهم الخاصة وأمور الشعوب وأوطانها، يدخنون ويحتسون القهوة بكميات كبيرة خلال أحاديثهم، ثم يتفرقون مجددا…لا «عيش» ولا «ملح» وطبعا لا روابط متينة يصنعها الدخان، كما لا أعتقد أن القهوة تفعل ذلك. كل لقاءاتهم تلك لا تعني أحدا، وأحيانا لا تعني حتى أبناء مهنتهم المبهمة تلك. لا شيء يميز في الحقيقة كُتَلنا الأدبية ونُخَبَنا المثقفة، إنها هنا وليست هنا، ولعلّنا نراها أكثر خلال السجالات التي تحمل بعض التراشق الحاد بين طرفين، وكأن في الأمر اتفاقا سريا على رفض كل توافق وانسجام محتمل. هناك رؤية خاطئة للشعوب المؤدبة والمهذبة على أنها شعوب خطيرة، لهذا بدا الأمر عاديا أن نعيش في ظلال الحظائر المشيدة لنا منذ آلاف السنين.
تقاليدنا اليوم أقرب إلى تقاليد القرود منها إلى تقاليد البشر في مطلع قرن التكنولوجيا والطب المتطور والصواريخ المخترقة للفضاء الأرضي، إذ ثمة انهيار كامل للعقل المفكر، فيما تحوّلت ساحات العيش إلى حلبات لتصارع كل أنواع الغرائز. تزخر المنافي بالمقابل بأنواع من الكتاب والشعراء والمثقفين والأكاديميين والعلماء، إما خضوعا لنفي سياسي أو قسرا لظروف اقتصادية تحول المثقف بكل أشكاله وألوانه إلى متسول. وبالنسبة لهذا المثقف الذي يُنفى أو يَنفي نفسه طوعا، فإن ما يبحث عنه هو ولادة جديدة وليس هروبا، إعادة ترتيب لدماغه المشوش في بيئته، تنظيف ما يجب تنظيفه وتأثيثه بأثاث جديد يليق بمقامه الفكري. والله من العيب أن يقف المثقف في طابور المنسيين داخل وطنه، إنّه انتحار بطيء واختيار مخجل، فلطالما هناك فرص للخروج منه فما عليه سوى الخروج. من هناك سيضطر لرؤية بلاده وأهله بمكبر صورة، وسيضطر أن يراه أهل البلاد أيضا بالتليسكوب، وإلا كيف نفسر عظمة من غادروا أوطانهم صغارا وعادوا إليها كبارا يُرحب بهم باحترام ولهفة مبالغ فيهما أحيانا؟
ويعتقد الغربيون أن المَنفيَّ مجبرا كان أو طائعا ليس سوى سائح في رحلة، أو سفر، ويعرفون المنفى على أنه «حركة إبداعية» فهل يعني ذلك أن كل كاتب أو شاعر أو ذي فكر يلزمه أن ينفي نفسه؟ بالتأكيد لا، ولكن الركود الثقافي الذي تشهده المنطقة العربية، يعود لركود في حركة الفرد نفسه، وفي ذلك الثبات الذي يشبه توقف الساعة، وانحباس الهواء والماء في مكان مغلق. «كل حركة بركة» يقول مثلنا القديم، ويبدو أن منبعه فيزيائي محض، وينطبق على كل ما هو حي ومن غايته ترك بصمة إنتاجية في وسطه. لكن هذه الحركة أيضا هي التي جعلت الأدب في المنافي يصبح إنسانيا، شاسعا واسعا، شاملا للوجدان المشترك لذلك الراحل بقلمه بحثا عن ظروف أفضل للكتابة والتعبير عن أفكاره في ما يخص تحسين حياة الإنسان ومحاربة الشر الذي تبناه آخرون تحت عناوين كثيرة أغلبها «سياسي- اقتصادي».
أكتشف هذا الأمر، أو في الحقيقة أزداد تأكدا منه في كل سفرة لي إلى البحرين على الخصوص، حين أعود إلى النبع الذي تدفقت منه، وأتأمل المكان بكل ذخائره وجمالياته التي لا تزال خاما تقريبا. أقرأ كل المعطيات المبثوثة أمامي ولا أفهم لماذا مسحة الأسى التي تملأ العيون، فكل تلك الطاقات مبهرة، ولكن الركود يقتلها، وتلك الدوائر المغلقة التي تحيط بها تزيد من عزلها عن الفضاء العام الثقافي فتسمم الوضع أكثر مما تخدمه.
أنا هنا اليوم مجرّد طائر مهاجر يعود لعشه ويغادره، لكني طائر لا يكف عن التحليق. أما هذه السماء الفسيحة التي أنعم بالتحليق تحتها فهي الشاشة التي أرى من خلالها الأمور بشكل أوضح وأنضج. داخل القفص يقرفص الطائر المقلم الأجنحة وينعى حظه، ويتخبط في أسئلة كثيرة كلها تصب في المعنى نفسه «أليس مجتهدا؟ فلماذا لا ينتشر؟ ولماذا لا يُقرأ بشكل جيد؟ ولماذا لا يعبر الحدود بنصه كأي كاتب آخر صنعته محليته؟
كل هذه الإشكالات تنبثق دفعة واحدة من وضع كتابنا في العالم العربي من أقصاه لأقصاه، كلها تثير الأسئلة المشككة بما نؤمن به أو ندعيه، نحن أمة الشعر، أو عشاقه، نحن أمة الغناء وهز الخصر والرقص على وقع الدفوف، نحن الذين تثملنا أم كلثوم وتوقظنا فيروز، ويجعلنا مارسيل خليفة وطنيين كما في السبعينيات وقبلها…
كذب من قال إننا طلقنا الأدب والشعر. ولكن من حوّلنا إلى كائنات بليدة؟ من خفف أصواتنا فأصبحنا بلا أصوات، بلا أرواح، بلا أجساد؟
مرة أخرى يأتيني ذلك الصوت الحزين لأميمة الخليل وهي تغني «عصفور طل من الشباك» فتنهمر الأسئلة مالحة كالدمع عليّ عن مستقبل أوتار العود في مشهدنا الثقافي، عن مستقبل القصيدة التي يمكن أن تغنى ويمكن أن تُقرأ، ويمكن أن تهرّب حبرا على ورق وتلتهم كقطع الحلوى؟ عن مستقبل رواة القصص المضيئة، وصناع الأبطال الخارقين؟
أقف عند حدود الأسئلة لأني لغاية اليوم لا أفهم التحولات التي عصفت بإرثنا الذي تهاوى دفعة واحدة وأصبح النهوض به مهمة شاقة. حقيقة هل لهذا التراجع المخيف معنى؟ هل هناك أمل صغير يعيد لنا الثقة التي فقدناها في أنفسنا؟ وقد فاتتنا قطارات ورحلات لا حصر لها كان بالإمكان أن توصلنا لمحطات تصلح لإقلاع جديد؟ هل هناك أمل لعودة العصافير المهاجرة لأعشاشها؟ وأمل آخر لفتح الأبواب لطيور الأقفاص؟ هل من بريق في الأفق للم الشمل لهذه العائلة الممزقة؟
أيها السادة والسيدات، يا قرائي الأحباء: المثقف اليوم مجرد ناطق رسمي للسياسي الأبكم، «طفل جرائد» يلوح بصحفه في الشوارع للمارة وهو ينادي بالعناوين المثيرة…
آخ من هذه النكسة، نكسة الـ2017 بامتياز…
شاعرة وإعلامية من البحرين

الأدب صنعة من؟

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جميل، لندن:

    هذا نزيف فكري وليس مجرد مقال. إذا كان للأجساد هواء تتنفس به، فالأدب نسيم للقلب والعقل. لكنهم لا يعلمون، ومن يعلمون ينكرون. لا يريد صغير أن يقف إلى جانبه كبير. حتى حشائش الأرض تحسد أغصان الحور. الأدب حدائق زهور تعبق بعطرها الأمكنة لكنها محكومة برقتها الآسرة وضعفها البديع. كيف يكبر الزهر ويزهو وسط حشود الشوك والنبات البري؟ كيف يزرع الأدب بذور الجمال في عقول وقلوب لم تتأثر بعد بقيم الخير؟ مازال الناس بين متطاول من أجل التطاول وحاقد من أجل الحقد وبين لاهث يبحث إما عن رغيف وجرعة ماء أو عما يمكنه من قتل أخيه الذي يتطاول ويحقد عليه. الأدب هو الطفل المنسي الذي سيكبر بقوة من لدنه مدفوعاً بأحلام الجمال الذي يدرك حتى في نعومة أظفاره أنه وحده من سيسقي بذوره في نهاية المطاف على أديم الأرض. بوركت يا بروين وبورك أمثالك.

  2. يقول الدكتورجمال البدري:

    عزيزي سوري وبك أنعم وأكرم.حالما تصدركاملة بعد وضع الغلاف سأرسل نسخة لحضرتك.لكن زودني بعنوان بريدك الإلكتروني بواسطة السيد المحرر.فله الشكروالتقديرلتعاونه معنا ؛ فهوكريم الكريم ابن الكريم.مع محبتي.

  3. يقول السعيد بن أحمد / الجزائر:

    المقال معتق بأسئلة وجودية تستفز برقة المثقفين للحظة اليقظة والنهوض .
    توصيف للحالة التي وصلها المثقف من التهاوي والتراجع .
    هذا مقال جدير أن يُدرس في الجامعات والمعاهد لاستنهاض العقول والهمم للخروج من دائرة الركود والاستسلام .

  4. يقول سلام عادل(المانيا):

    سيدتي العزيزة
    نحن اسرى وعبيد حكوماتنا ولذلك نحتاج اولا ان نكون احرار لكي نستطيع ان نفكر وننتج ونبدع والا ما معنى ان ننقسم كل مرة الى طرفين متخاصمين وليس اكثر من طرف,ففي كل الازمات نكون فريقين مع صدام او ضد صدام مع القاعدة او ضد القاعدة مع قطر او مع السعودية مع ايران او مع السعودية ولكننا لالامانة ننقلب على القوي عندما يضعف وبكل بساطة.

  5. يقول رؤوف بدران-فلسطين:

    في نهاية مقلك الادبي الرائع , تتسائلين يا بروين: ” هل هناك أمل لعودة العصافير المهاجرة لأعشاشها؟ وأمل آخر لفتح الأبواب لطيور الأقفاص ؟؟!
    الطيور المهاجرة يا بروين , سوانح كانت ام بوارح هي التي تختار معالم الطريق , ولها الحرية المطلقة في رسم الدلالات للاهتداء, هكذا الحر يسبح في سماء حريته !! اما المخلوقات التي لا تستطيع الاختيار الا وهي مدجنة ومفروض عليها التقييد والتشديد ونهج العبيد لا يمكنهم اختراق مجالات الابداع …ان لم تستطع ان تتحرر فبالقيد تندثر!!!
    المبدع العربي اذا وُجِد ؟! لا يستطيع التحليق بجوانح الابداع الا في فضاء الحرية , ولا يستطيع تمتيع سامعيه الا بتغاريد الامل !! لهذا نعيدها ونقول اين نحن من حرية الامل وامل الحرية …فلا هذا موجود ولا ذاك منشود …ولكن للانصاف توجد بعض الاستثناءات وهذا شيء مشجع .
    داومي استكشاف مكامن الالم ودواومي الضغط باصابعكِ(بكتاباتك ) حتي تستخرجي من افواهنا المكتومة صيحات التوجع المدفونة فينا من سنين .
    بورك فكرك وقلمك والاسطر الادبية التي ترافق صحبتك والسلام

  6. يقول هياب المساعد:

    الدكتورة الأنيقة الجميلة..أنت محظوظة بمجموعة نوعية من المعلقين الممتازين الذين يتابعون مقالك الأسبوعي بشوق وحنين.وكما يقولون : المحبة من عند الله.وأنت تكتبين في أحلى جريدة عربية في العالم.في النصف الأول من القرن الماضي ظهرت لدينا بعض اسماء ذات مكانة.. ثم غابت عن الساحة ، بظهورك عبر جريدة القدس اليوم تعيدين المجد للمقال الصحفي الجديد بروح شفافة.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية