تكالبت الظروف الاقتصادية الصعبة على الأردن وتزاحمت كتفاً لكتف المتاعب الداخلية مع الأزمات الخارجية، وأخذ الأردنيون يحاولون البحث عن المقدمات التي أوصلت الأوضاع الاقتصادية إلى هذه الحالة من الاستغلاق، ووضعتهم أمام جملة من التحديات المحبطة، التي أطاحت بمعظم ما حصلوا عليه من مكتسبات، ولحقت في خطوات متسارعة بمنظومة الدعم وصولاً إلى التخفف من دعم الخبز وتحرير أسعاره، في خطوة تؤشر إلى مدى فداحة المشكلة الاقتصادية القائمة.
يحلو للأردنيين أن يحمّلوا الفساد مسؤولية الوصول إلى هذه المحطة التي لم يجدوا لديهم أبعد من السخرية لمواجهتها، إلا أن الفساد على الرغم من جسامة أثره السلبي على الاقتصاد في الأردن، لا يتحمل مسؤولية عيوب هيكلية أخرى تسببت في هشاشة الاقتصاد الأردني، خاصة أن الموارد المتواضعة للأردن تنوء منذ زمن بالمسؤوليات السياسية، التي ألقتها الظروف الإقليمية على الأردن، بدون أن يجد ذلك أي استجابة سوى التسويف والتأجيل والترحيل من حكومة لأخرى.
تضخمت الحكومة الأردنية لأداء أغراض استيعاب تطور المجتمع الأردني، بدون أن يكون ذلك على أرضية موارد مستدامة في الأردن، فسنوات السبعينيات والثمانينيات الساخنة، التي اختتمتها إزاحة سكانية هائلة من الكويت إلى الأردن، جعلت التشغيل غاية في حد ذاته، لتجنيب الأردن توترات اجتماعية لا تتناسب مع وضعه، بوصفه الدولة التي تحملت، رغم إمكانياته المحدودة، الحصة الأكبر من أعباء وجود إسرائيل، وما يمثله ذلك من حرج للمجموعة العربية، التي تتحمل تضامنياً وتكافلياً المسؤولية القومية والأخلاقية تجاه انتزاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وإلقائه في فوضى الشتات، من أجل تأسيس دولة اسرائيل، التي كانت تعني ضمنياً الثمن المباشر لعملية الإخلاء الاستعماري من المنطقة العربية.
كانت المساعدات الخارجية، المباشرة وغير المباشرة، بمثابة الرافعة لاستيعاب الزيادات السكانية غير المتناسبة مع الموارد المحدودة، وبتراجع المساعدات، توجهت الحكومة من أجل الاستمرار في دورها الاجتماعي والاقتصادي، إلى استهلاك المواطن الأردني بوصفه مصدرها التمويلي، من أجل عملية التدوير الاقتصادي، بما يعني أن الأردن يأكل نفسه اقتصادياً، وبدلاً من أن تمثل المساعدات الخارجية دفعات مقدمة من أجل التوسع في التشغيل، أصبحت تنحصر في التدخل بين وقت وآخر من أجل الحيلولة دون الوصول إلى العجز عن الاستمرار في هذه المعادلة.
بقي الاستثمار الأجنبي متخوفاً من القدوم إلى الأردن، نتيجة أجندة من المخاطر الخفية تتمثل في وضع دولة المواجهة، وحتى بعد توقيع اتفاقية السلام مع (اسرائيل) في منتصف التسعينيات، لم يجد المستثمرون أجواء إيجابية لاستقبالهم، لأن اليد العاملة الأردنية بقيت دائماً أعلى سعراً من أن تشكل عاملاً جاذباً للاستثمار، وهذه الوضعية غير التنافسية كانت من نتائج ممارسات الدولة الريعية، التي تغذت على المساعدات، وعلى تصدير عمالتها إلى منطقة الخليج على امتداد العقود السابقة.
أتت أحداث سبتمبر وما تبعها من حملة جورج بوش (الصغير) على الإرهاب، وثمرتها المريرة بسقوط بغداد 2003، لتجعل السلام مع إسرائيل مطلباً عربياً تتعامل معه إسرائيل من منطلق العشيقة التي تنتظر انتهاء المزاودة على طلب ودها، وأدت هذه الحالة من التهافت إلى تراجع التنافسية السياسية للأردن، الذي كان يفترض أن يؤدي دوره بوصفه السوق الوسيط بين العرب وإسرائيل، لفترة انتقالية من الوقت تمثل اختباراً لما كان يفترض بنوايا اسرائيل لتحقيق سلام (عادل وشامل).
تجذرت في العقلية الأردنية لحظة بعيدة ستمثل انفراجاً درامياً يشابه الفوز بورقة اليانصيب، مما تصوره الجميع حلاً نهائياً لقضية الشرق الأوسط، وتغذت المخيلة الأردنية بأن السينارست الطيب سيضع في اعتباراته تعويضاً ضخماً لمعاناة طويلة تعرض لها الأردنيون والفلسطينيون على السواء، وبقي الأردنيون يسحبون طويلاً من مشكلات الواقع، لإيداعها في أمنيات المستقبل.
تناسى الأردنيون أن العالم ليس عادلاً بالضرورة، وأن العالم العربي تحديداً لا يأبه بالظلم من الأساس، لكي يضع العدل ضمن أولوياته، فالأردن الذي تعرض طويلاً لاحتمال أن يكون الدولة الأكثر تضرراً في مواجهة مع إسرائيل، كان يتوقع أن يكون الدولة التي تحصل على الحصة الأوسع من كعكة السلام المرتقب، ولكن ما حدث كان مختلفاً، فالأردن تعرض لضربات متتابعة، جعلته يمثل الدولة التي تزهد اليوم في السلام الأعوج، بينما هي في الحقيقة الأكثر احتياجاً للسلام في هذه المرحلة.
واصلت الحكومات الأردنية في الأعوام الأخيرة ضغوطها الكبيرة على المواطن الأردني من أجل تمويل ترهلها وتوسعها غير المنتج، وإن يكن مبرراً لاستيعاب الإزاحات المتتابعة سكانياً واجتماعياً، ووجدت نفسها تصل إلى لحظة الحقيقة، التي أعلنت أنه لا بديل سوى الاعتماد على النفس، وهو ما أتى متأخراً جداً، فهذه الخطوة كان يجب أن يتخذها الأردنيون مع نهاية الستينيات، عندما أظهرت الوقائع بوضوح أنه لا توجد ظروف موضوعية تؤهل العرب لوضعية الندية في مواجهة إسرائيل، وقتها كان الأردن يمتلك العديد من المزايا النسبية، مثل تواجد الحد الأدنى من المرافق التعليمية والصحية، وبنية تحتية معقولة، ومجتمع لم يكن منهكاً تحت وطأة السلوك الاستهلاكي.
بقي الأردن بعد حرب فلسطين 1948 في مدار المد القومي، واصطبغت جميع الأطياف السياسية الأردنية بالمشروع الأوسع العابر للشأن المحلي، وبعد حرب 1967 أتى المشروع الإسلامي الذي يحمل أيضاً امتداداً خارجياً، وفي ظل مشروعين شكّلا الثقافة السياسية الأردنية، بقيت الدولة تحاول استرضاء الشارع، وتسويق فكرة المواجهة التي كانت تلقى أيضاً الهوى والحماس لدى الأردنيين.
في الوقت الذي تحركت فيه التظاهرات في تونس والسودان، احتفظ الأردنيون بهدوئهم، ولم تتحرك فعاليات الاحتجاج على قرارات رفع الأسعار الأخيرة، مع وجود قناعة مستقرة بأن الحكومة كان يمكنها أن تقدم حلولاً أفضل، ومن واجبها أن تفعل ذلك، ولكن تستقر في وجدان الأردنيين اليوم قناعة ثابتة بأن الأردن تعرض لعملية من الالتفاف على خياراته، وأن (الأشقاء) تخلوا عنه تباعاً، بل مارسوا عليه ضغوطاً غير مسبوقة ليقدم تنازلات غير مفهومة ويلقي بأوراقه بصورة عشوائية، بدون أن يحصل على التعويض المناسب، كما ويلقي الوضع الإقليمي على حدود الأردن الكثير من التحديات على المستوى الداخلي.
يبحث الأردن حالياً عن تحالفات جديدة، ويستوثق من أوراقه لدى حلفاء آخرين في أوروبا، ولا يبدو ذلك كافياً، والأردنيون يطالبون بالانتقال من رد الفعل إلى الفعل على المستوى الاقتصادي، وهو ما يتطلب فريقاً اقتصادياً متجرداً عن الذهنية التي كرّست الاقتصاد الأردني جزءاً من اللعبة السياسية، ورسخت ثقافة الانتظار لدى أجيال كاملة من الساسة الأردنيين، والمضحك المبكي، أنهم ينتظرون القطار، حيث لا توجد محطة للقطارات ولا خط حديدي من الأساس.
كاتب أردني
سامح المحاريق
في الحقيقة أن الأردن يعيش واقع مؤلم جدا ولا يعلم حجم معاناة الشعب إلا الله..كان الله في العون..
الله المستعان