مهمةٌ صعبةٌ للغاية أن تعيد ترميم نظامٍ قامت عليه ثورةٌ شعبية، ليــــس لاستــــبداده (وهو حاصل) وإنما لخيبته وفشله في تحقيق الكفاية، ناهيك عن أي تنمية.
مهمةٌ صعبةٌ للغاية ومجهودٌ جبار ذلك الذي تحتاجه لقلب الحقائق واختلاق السرديات الموازية والتدليس والتلفيق، واصطناع المــــؤامرات الكونــــية الــخارجة من مجلدات سوبرمان وأقاصيص مغامرات رجـــل المستحيل.
أن تقنع الناس بتلك الهلاوس شاحناً إياهم بمشاعر وطنيةٍ محمومة تتخطى الواقع وتتنفس الغضب ضد المؤامرات الكونية وقوى الشر، أن تكسي شخصاً محدود الذكاء والموهبة والقدرات مسوح المخلّص، حتى مع استعداد الناس لذلك وتشوقهم إليه، كل ذلك صعبٌ مرهق، وعلى ذلك فالرئيس السيسي هو رجل تلك المهمة الصعبة، أو على الأقل هو الرجل الذي وقع عليه اختيار النظام والدولة العميقة والأطراف صاحبة المصلحة في بقاء مصر على ما هي عليه، بانحيازات مبارك الاجتماعية والاقتصادية نفسها، ففي سبيل ذلك أسقط الرجل كل الاعتبارات والمحرمات وأطاح بسقف العنف أو أي موانع تقف في طريقه.
لكن الأصعب من ذلك أن تقف في وجه كل ذلك العنف والبطش والعصاب المستند إلى الدولة، بأدوات عنفها وقطاعاتٍ عديدة شربت سردية النظام لأسبابٍ ليس هنا مجالها (مع إقرارنا بأنها تتناقص)، أن تقف قلة قليلة عزلاء في وجه النظام بقضه وقضيضه رافعةً راية «لا « مصممةً ثابتةً على أن «الأرض مصرية»، راكضةً في الشوارع من قوات أمنٍ تلاحقها بالهراوات والغاز المسيل للدموع، ومتحملةً صفاقات مناصري النظام من المستفيدين والمغيبين والأفاقين والمهادنين، أن تتصدى لمهمةٍ كتلك وأنت تعلم يقيناً أنك ستهان وتلاحق أمنياً وتشوه وتسجن على الأغلب الأعم، كما في حالة الأستاذ المناضل مالك عدلي، على سبيل المثال لا الحصر، ومع ذلك تختار أن تقف، لا تهادن وتهاود ولا تلين، إنك على استعدادٍ لدفع ذلك الثمن الباهظ من حريتك وعمرك وصحتك، فراقاً مع أطفالك الصغار وبقية أهلك لتكسب لهم مستقبلاً أفضل وأكثر إنسانيةً ووطناً حقيقياً لهم فيه مكان، أن تدفع ذلك الثمن لتحافظ على كرامتك وكرامة أناسٍ أنكروك نتيجة تجهيلٍ واستلابٍ تاريخيين، ولتظل متسقاً مع ذاتك وفياً لكرامتك، ذلك الاختيار أصعب بمراحل، لا مثيل له.
لقد أصدرت محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار يحيى الدكروري قرارها ببطلان توقيع ممثل الحكومة المصرية على اتفاقية ترسيم الحدود، وبالتالي قضت باستمرار السيادة المصرية عليهما وحظرت تغيير وضعهما بأي شكلٍ من الأشكال.
أصدرت المحكمة حكمها في لحظة جزرٍ معنوي «على الأقل في حالتي) وإحباطٍ، في لحظةٍ بدا فيها وكأن سطوة الدولة وقبضتها الأمنية العائدة بشراسةٍ وسعارٍ غير مسبوقين قد نجحت في إرهاق وتكسير عظام المقاومين، الذين هموا بالتظاهر. كأن ذلك الحكم جاء من حيث لا نحتسب، نتيجة مجهودٍ جبار من قبل مجموعة من المحامين والحقوقيين أقاموا تلك الدعوى وبذلوا جهداً محموماً في جمع الأدلة والقرائن، فأتوا بثلاثٍ وعشرين وثيقة رسمية تثبت مصرية الجزيرتين، من بينها» أطلس مصر والعالم» الصادر عن إدارة المساحة العسكرية في وزارة الدفاع، مثبتاً فيه أن الجزيرتين تقعان ضمن الحدود المصرية، وتتبعان محافظة جنوب سيناء، لكن الرئيس السيسي خرج علينا ليؤكد أنه سأل وزارتي الخارجية والدفاع والمخابرات العامة فبحثوا في «أرشيفهم» ولم يجدوا شيئاً يثبت مصرية الجزيرتين، هذا كذبٌ صريح، ليس لذلك مسمىً آخر.و
إما أن تكون تلك الأطراف قد استغفلته أو لم تبحث جيداً (لتعثر على ما وجده ثلة من المحامين في مطبوعات الوزارة) أو أنه لم يسأل من الأصل.
على كلٍ، نحن نعلم ما حدث، فالموضوع أبسط من ذلك، فلا هم سألوا ولا اهتموا ولا بحثوا في التبعات الاستراتيجية الخ، لقد أرادت السعودية ووافقت إسرائيل وباركت أمريكا فاعطى النظام المصري، باع بثلاثين من الفضة، غير أن تلك الفرقة من المحامين الثوريين رأت أن تعضد ذلك الرفض باللعب على أرضيةٍ أخرى، وتخوض الصراع على جبهةٍ موازية، جبهة القضاء والمحاكم، «حرب المواقع « التي قال بها غرامشي، وذكرنا بها بعض الأصدقاء، مستغلين مساحاتٍ قد تكون متبقية من الحرية ومن الاستقلالية في المؤسسات، نتيجة طبيعتها ومنطقها الداخليين وهيكلها وقوانينها الحاكمة، مع إقرارنا بتعبيرها في الأساس عن الطبقة الحاكمة.
إن هذا الحكم لزلزالٌ له ما بعده لو كانوا يعلمون
ولئن كانت ثورة 25 يناير أخرجت في مدها أفضل ما في مصر وأظهرت معدنها الأكثر أصالةً، فإن النظام المصري في فترة الثورة المضادة ما يني يذهلنا بمدى تهافته وإفلاسه، مشاريع ووعود كاذبة وتعديات غير مسبوقة على المؤسسات والحريات العامة والشخصية، في خطابٍ عجيب يجمع بين فاشستية الشعارات والممارسات ورثاثة السياسات والانهزام والتفريط للخارج.
إن النظام الذي يطعن على حكمٍ ببقاء أرضه في حيازته، نظامٌ ساقطٌ أخلاقياً، ويوفر لنا مشهداً بذيئاً غير مسبوقٍ في التاريخ. في أعقاب حكمٍ كذلك كنا نتوقع أن يتحلى الرئيس وحكومته بذرةٍ من الكرامة فيستقيلوا، بعد أن يعتذروا لكل المحبوسين لاعتراضهم على تلك البيعة الباطلة ورد «الإتاوات « المأخوذة في صورة كفالات ربت على الاربعة ملايين لإطلاق سراحهم، لكننا جميعاً نعلم أن ذلك لن يحدث، سوف لن ينصاعوا لذلك الحكم وسيستمرون في طريقهم حتى النهاية.
بغض النظر عن أي تصرفٍ للنظام، لقد أطلق ذلك العيار وخرج إلى الوجود ولا عودة للوراء، قد يستصدورن حكماً آخر «يثبت سعودية الجزر» في استعراضٍ آخر للابتذال والامتهان، إلا أن ذلك الحكم قد خرج إلى الدنيا وسيزيد من التناحر والتصدع في هيكل نظامٍ مترهلٍ متهالك.
مهمةٌ مستحيلة أن تعود بالزمن للوراء، أن تجعل العدم يبتلع تلك الكينونة وذلك الوجود الذي صار، بعيداً عن الشعارات والحماسات فالبيعة باطلة، بحق التاريخ والجغرافيا والتضحيات ودماء الشهداء باطلة، حنفيا، شافعيا، مالكيا، حنبليا، جعفريا، أو أي مذهبٍ أو ملةٍ شئت باطلة، محض تفريط.
كل يومٍ يمر يسقط عن هذا النظام وهم آخر من أوهام الشرعية ليظهره على حقيقته مسخاً قبيحاً، نظام ثورةٍ مضادة يحلم عبثاً بترميم وإعادة تأهيل ما مضى زمنه،
هذا الحكم له ما بعده وسينقل الصراع إلى مستوىً جديد.
في النهاية لا يسعنا سوى الانحناء تقديراً واحتراماً لكل الصامدين و للأستاذ خالد علي ورفاقه، الحر منهم والمأسور.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
النظام العسكري بأي دولة هو نظام فاشل حتى لو نجح بصنع السلاح يبقى فاشلاً بالحروب
مصر لا تستحق هكذا نظام فاشي خاصة بعد ثورة 25 يناير
ولا حول ولا قوة الا بالله
شكرا للدكتور مصطفى على مقاله الجيد ولكن توجد قراءة مختلفة تتداولها الأوساط السياسية والإعلامية مفادها أن السيسي نفسه هو من أوحى بإصدار هذا الحكم (وخصوصا في ظل عدم استقلالية القضاء المصري وتسييسه) وذلك بسبب المعارضة الشديدة لاتفاق التنازل (البيعة) عن الجزيرتين وهو بذلك يريد تحقيق أحد الامرين:
الاول: التملص من هذا الاتفاق بسبب الاحتجاجات الشعبية الضخمة ضده، وادراك خطورة الاستمرار فيه وتنفيذه.
الثاني: استخدام هذا الحكم للضغط على الحكومة السعودية للحصول على المزيد من المساعدات المالية (الرز) خاصة أن العجز في الميزانية المصرية وصل الى ثلاثين مليار دولار في الاشهر العشرة الماضية.
تحية للأستاذ الكريم
أول نظام في التاريخ يستميت لإثبات أن أرضه ليست ملكه
وتحية لثوار 30 سونيا
وهناك إحتمال ثالث و هو الأوقع: حكم بالبطلان في أول درجه ثم طعن و تأييد أو إقرار بعدم إختصاص القضاء من محكمه أعلي، فيصبح بذلك أمراً مقضياً و يقطع الطريق علي أي محاوله لإثارة الأمر مره آخري.