الفهم الخاطئ للديمقراطية الذي تبناه أمثال فريدمان من أن المسائل المهمة المتعلقة بإنتاج وتوزيع الثروات والتنظيم الاجتماعي يجب أن يعود القرار بشأنها إلى قوة السوق، غيب دور الدولة الراعية للعدالة الاجتماعية، فسيطر منطق البزنس وساد المجتمع، وأصبحت الهيمنة التجارية هي المطلب الذي يُتداول .
وتتبع الولايات المتحدة منذ زمن مثل هذه التوجهات، ضمن سياستها الخارجية التي قوضت دعائم الديمقراطية التي تدعيها وسحقت مفاهيم حقوق الإنسان، وعززت مصالح القلة الغنية تحت شعار النيوليبرالية، ويعد نعوم تشومسكي من أبرز النقاد الأمريكيين الذين قدموا نقدا لاذعا لمثل هذه السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية منذ ستينيات القرن الماضي، وهو الثائر على النظام القائم، كما يصفه روبرت ديليو. وحرص تشومسكي في الدفاع عن الديمقراطية باعتبارها حجر الزاوية الذي لا غنى عنه، في إقامة مجتمع ما بعد الرأسمالية، وهي الأساس الاجتماعي الذي يجب أن نُناضل من أجله لكي يحيا المرء في ظله.
من يدافع عن الرأسمالية لا يمكن أن يكون مؤيدا للديمقراطية التشاركية، ذاك أمر مستحيل حسب مقاربات نعوم تشومسكي في أغلب كتبه، فالجذور التاريخية للنيوليبرالية التي بحث في كشفها، إنما تزيدنا تأكيدا على أن مثل هذا المذهب السائد اليوم ما هو إلا الصورة المعاصرة للصراع المحلي بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة ولصراع الشمال والجنوب، فالقلة الغنية تكافح من أجل تطويق الحقوق السياسية والمدنية للأكثرية.وهي سياقات جعلت الحكومات لا تهتم بالفقراء والمعدومين، بل تُركز اهتمامها على الشركات التجارية التي تتهرب ضريبيا، وغالبا ما تطلب دعم الدولة في جميع النواحي لتوسيع سوقها الحرة، وهي في كل ذلك لا تتحمل عبء أي التزامات تجاه شعوبها.
في ظل الأزمنة السياسية اللاأخلاقية التي نعايشها، والتي يزداد الوضع الاجتماعي للشعوب سوء بفضل سياسات الاقتصاد النيوليبرالي المتوحش. تتعثر الانسانية في هذا المعترك وتستسلم اقتصاديا وثقافيا لهذا النظام المتردي ما يجعلنا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى طاقة ثورية تنهل من دوافع النزعات الديمقراطية المطلوبة، لتكريس نظام اجتماعي أكثر إنسانية وعدالة وديمقراطية، ونعلم أن هذا ليس بالأمر الهين لوجود قوى كبرى تسهر على منع وجود سياسات ديمقراطية حقيقية، في ظل شركات نيوليبرالية ترتع وفق قانون السوق الحرة التي تُنظم نفسها بنفسها، من دون تدخل الدولة، وهو الشعار التآمري الذي خلق حكومات تتفاعل مع أصحاب رأس المال وتحمي الأقلية الغنية، ولا تلتفت للأكثرية الفقيرة إلا عند جمع الضرائب وإثقال كاهل الفئات الوسطى والمعدومة من حين إلى آخر تحت عناوين ضرائبية مختلفة.
مثل هذه الشركات الرأسمالية هي التي أفسدت المسارات الديمقراطية وعثرتها وعطلت إمكان إقامة ديمقراطية حقيقية ترتكز على حق المشاركة العامة والتفاعلية والمساواة الحقيقية بين الناس، فالإعلام النموذجي غُيب لصالح إعلام يُباع ويشترى، وفق نشاطات العلاقات العامة التي تشتغل أيضا على شراء الذمم وتوجيه وجهة الانتخابات ونتائجها، كما أن مجتمع الشركات والاقتصاد الريعي أيضا يستطيع أن يطمس شخصية المثقف بشراء المفكرين وتوجيههم صوب الطابور المدافع عن أشكال الانتهازية الرأسمالية وإيديولوجيا النيوليبرالية الشعار المتأخر لاقتصاد السوق المُعولم.
إذا ما دفعت البشرية بقواها الحية نحو النشاط السياسي الإنساني والاقتصاد العادل اجتماعيا، فإن العالم سيصبحُ أكثر إنسانية، ولكن في غياب مبادئ التعاون الانساني والمساواة الحقيقية ومصادرة السيادة لصالح الشركات الربحية يُطمس مفهوم حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية، وما الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة منذ القرن الماضي إلى حدود هذين العقدين من الألفية الثالثة في كل العالم من آسيا إلى أمريكا إلى أفريقيا إلى أوروبا إلا دليل على هشاشة وضعف النظام النيوليبرالي الذي ولّد مثل هذه الأزمات، وهو أمر يشي بردود فعل احتجاجية ربما تكون أكثر حدة مما حدث، رفضا لمثل هذه السياسات التي عمقت التفاوت بين الشمال والجنوب، وجعلت فئات واسعة من الشعوب تدفع فاتورة خيارات رأسمالية معادية للنظام الإنساني وللعدالة الاجتماعية، ومُغيبة للحل الديمقراطي والإنساني. والمؤسف أن العالم لا يتجاوب نحو الأفضل ولا يبحث عن التغيير الايجابي نحو تحسين أوضاع البشر وإقامة معالم نظام انساني تجاوزا للتسويغ الإيديولوجي المتهافت كفكرة «نهاية التاريخ» التي صاغها فوكوياما وغيره وادعاء أن الهدوء الجماهيري إنما يعكس قبولا ورضى عن الوضع الرأسمالي الراهن. ولكن سُكون الشعوب ما هو إلا تعبئة حركة لا يعلم أحد متى تقذف حممها.
كاتب تونسي