دائما كان الغناء حقلا فنيا يحمل عبر أنغامه وكلماته وأشكاله الموسيقية شفرة وجدانية تنسج خيوطها السرية بشكل مباشر مع المتلقي من غير ان تشكل الهوية القومية التي تنتمي لها الأغنية حاجزا معه. والغناء كان أول خلجات الإنسان الفنية التي توصل إليها في مرحلة الطفولة البشرية تحسس من خلاله رعشة ذاته أمام الطبيعة بصورها وأصوات عناصرها، وربما سيبقى الأقرب إليه من بقية الفنون الأخرى في لمس أحاسيسه بمختلف لحظاته الشعورية، وهذا لان الإنسان في أولى صور وجوده على كوكب الأرض كان صوته في مقدمة أدواته التي اكتشف ما يحمله من امكانيات للتعبير وبشكل عفوي وفطري عن خلجاته النفسية ومشاعره الغامضة، من خوف وفرح ودهشة وحزن ازاء ما كان يحيطه من مظاهر طبيعية يقف عاجزا عن تفسيرها، فالهمهمات والأصوات التي كانت تصدر عنه على شكل صرخات، شكلت أبسط صور التعبير الذاتي التي توصل إليها عفويا للكشف عن خبايا روحه القلقة في لحظة مبكرة من وجوده في هذا العالم.
افول أغاني الحياة
أسوق هذه المقدمة الموجزة وأنا بصدد الحديث عن مساحة غائبة من الغناء العراقي لم تحظ بأي اهتمام من قبل العاملين في هذا الحقل، وأقصد بها، ذلك النمط من الغناء الذي يبتعد أولا في موضوعات نصوصه عن علاقة الحب التي تجمع الرجل والمرأة، بصورها التقليدية التي طالما كرستها الأغنية العراقية والعربية على حد سواء، وتقترب تلك المساحة المغيبة إلى ما هو أعمق وأشمل في علاقة الإنسان بهذه الحياة، ولا تتوقف عند ما استقر من ملفوظات في سياق المبنى الغنائي المتوارث. وثانيا تنسج تلك المساحة قيميا لحنية لا تتجاور مع الذائقة السائدة التي استقرت على جماليات محددة وباتت تترك أثرها في وجدان المتلقي كما لو انها جزء من العادات والتقاليد والأعراف.
فالأغنية العراقية من حيث النصوص بقيت مجساتها تتوالى في سرد قصص الحب والهجران بين الحبيب والحبيبة لا أكثر، ولم يحاول المشتغلون في الحقل الغنائي الخروج بها إلى رؤى شعرية تتجه لملامسة مشاعر إنسانية تتفاعل مع الأشياء والموجودات بعيدا عن المنظومة الدلالية المكررة والمستهلكة في سياق ما هو متراكم من منتوج غنائي حافل بصور الحزن واللوعة بين العشاق.
تجارب لم تكتمل
إذا ما أردنا ان نكون منصفين في قراءتنا لتاريخ الغناء العراقي الحديث، لابد ان نتوقف أمام تجارب يتيمة خرجت عن السياق العام، وعلى الرغم من انها لم تتوسع وتتجذر في تمظهرات المشهد الغنائي إلا انها تركت أثرا في سجل الذاكرة الغنائية، قد يصعب العثور عليها وسط كثافة المنتوج المتكدس على أرصفة الأغنية العاطفية المسرفة بالدموع والشكوى والأحزان، بالوقت نفسه من السهولة بمكان العودة إليها واستدعائها من قبل المتابعين والنقاد إذا ما كان الأمر متعلقا بالحديث عن محطات أقام فيها مبدعوها خارج انطولوجيا الأغنية العراقية، وأبرز الأمثلة على ذلك ما قدمه المطرب عزيز علي، من نتاج غنائي خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، حيث كانت مجمل نصوصه تنبجس منها رؤية نقدية ساخرة للأوضاع العامة، وقد شكل حضوره الفني في المشهد الغنائي بنية فنية متمردة تستمد طاقتها المؤثرة لدى المتلقي من نزوعها إلى التحرر الكلي من الجمل الغنائية المخزونة في ذائقته، ولا يمكن الحديث عن تجربة عزيز علي، إلا باعتبار هذا الفنان نموذجا رائدا ومتفردا، بناءً على ما قدمه من فن غنائي منقطع عن ما هو سائد، وللأسف لم يتكرر في الأجيال اللاحقة.
في هذا السياق من البحث في خزائن الأغنية العراقية المعاصرة عن نماذج غير مألوفة اتخذت من الأغنية منصة للتعبير عن مساحات جديدة من الأفكار والمشاعر لابد ان تستوقفنا أيضا تجربة الفنان جعفر حسن، التي توهجت وبقوة في مطلع العقد السابع من القرن العشرين، حيث جاء حضوره اللافت في تلك الفترة من خلال ما قدمه من أغان كانت نصوصها تتغنى بالفقراء والكادحين لعل أبرزها أغنية «يا بو علي» هذا إضافة إلى عديد الأغاني الناجحة التي قدمها، وقد ساعدت الظروف المحلية والدولية آنذاك على ظهور تلك التجربة، خاصة تشكيل الجبهة الوطنية من قبل حزب البعث الحاكم والتي ضمت عددا من الأحزاب العراقية في مقدمتها الحزب الشيوعي الذي ينتمي له الفنان جعفر حسن. وشكل الحضور اللافت للفنان جعفر حسن تجربة فنية سرعان ما قلدها آخرون، فظهرت عدد من الفرق الغنائية التي حاولت تقديم نمط من الأغنية أطلق عليها في حينه مصطلح «الأغنية السياسية» وإن كنت أجده مصطلحا غير موفق في تأطير تلك التجربة لأنه وضعها في قراءة وتوصيف أقرب إلى المنشور السياسي منه إلى التجربة الفنية.
بالوقت نفسه يعاب على هذا النموذج الذي قدم ذائقة جديدة في مسار الغناء العراقي انه كان مؤدلجا، بمعنى ان الأغاني تم استثمارها من قبل جهات سياسية كانت تدعمها لأجل الترويج لأفكارها وأجنداتها وليس من أجل خلق تجربة فنية جديدة، ولهذا لم تستطع ان تتمدد في عموم الوجدان لدى المتلقين وبقيت تتحرك وبنجاح كبير بين جماهير الأحزاب التي ينتمي لها المطربون والفرق الموسيقية التي تقدمها، ولهذا لم تتطور ولم تستطع البقاء والصمود في أركولوجية الذائقة العراقية وانتهت بانهيار الظرف السياسي الذي أوجدها عندما تداعت الجبهة الوطنية، رغم ان العديد من الأغاني التي قدمها الفنان جعفر حسن كانت تحمل ما يكفي من عناصر نجاحها سواء من حيث النصوص والألحان، وما زالت تتمتع بذاك التأثير والحضور عندما يتم استذكارها في مناسبات معينة يتم فيها التطرق إلى تجربة الأغنية السياسية في العراق.
انتكاسة هذه المفردة التجديدية في تجربة الأغنية العراقية المعاصرة، تكمن أسبابها في انها كانت مرهونة بما هو سياسي، بمعنى، ان تلك التجارب لم يكن حضورها متأتيا من عملية بحث وتأمل في سياق تجربة الفنان المبدع ذاته وتطلعه إلى اقتحام منطقة غير مأهولة بحثا عن أفق ومذاق جديد يمنح التجربة الغنائية يقظة شعورية تعيد اكتشاف أوجها جديدة في الحياة.
تغييب أغنية المدينة
في إطار ما هو منتج في الأغنية العراقية المعاصرة منذ خمسينات القرن الماضي وحتى ما بعد العام 2003 كانت هنالك تحولات اسلوبية واضحة في بنية الجملة النصية واللحنية، فبعد ان كانت الأغنية تتعالق مع ملامح المدينة في خصوصية مفرداتها وشفافية ما يرسله خطابها اللفظي واللحني خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، نجدها ترتهن في سبعينات ذاك القرن بطاقة تعبيرية يمتزج فيها الشجن الذاتي مع ما هو موضوعي حيث يتداخل التعبير عن لوعة الحب والشكوى من الحبيب مع جمل تتغنى بأناشيد الحياة وهي تتجلى بين ربوع الوطن المتجه إلى الغد بتفاؤل، ثم بدات في العقد الثمانيني مرحلة أخرى حيث انحسرت المفردة المعبرة عن هوية المدينة وملامحها الضاجة بالحركة لصالح ما يعكس البيئة الريفية الجنوبية حتى وصل الحال بعد العام 2003 إلى ان اصطبغت الأغنية العراقية بملامح الموروث الصوتي المتراكم في الذاكرة الشيعية بفعل ما يتم ترديده من قراءات بكائية في طقوس عاشورا وهي تستعيد مقتل الحسين حفيد النبي محمد.
هذه التحولات مارست عملية تجريف لكل المحمولات المدنية التي كانت تخصب الأحاسيس الجميلة بكل شفافيتها في الأغنية العراقية، وبذلك أغلقت الأبواب أمامها في ان تدخل مرحلة من الوعي الفني يصل بها المبدع إلى منطقة التجريب الفني، والتحليق في فضاء المغامرة بحثا عن أشكال وأساليب جديدة تعكس جوهر الحياة المدنية ومتغيرات بنيتها الثقافية في ذات الفرد، وعلى العكس مما جرى في الأغنية نجد حقولا فنية أخرى مثل الرسم والمسرح والشعر والعمارة قد شهدت توغلا في مغامرات الحداثة حاول فيها المبدعون ان يحاكوا ما أفرزته التجارب العالمية من تحولات في فهم ورؤية التجربة الفنية، هذا يعني ان ذائقة المدينة بكل ما تحمله من توق وارهاص إلى التجديد والمغامرة والتجريب قد انتكست وتراجعت لصالح الموروث الريفي بما هو عليه من سكونية وثبات في قوالبه وانماطه المتوارثة منذ عشرات السنين. بذلك خسرت الأغنية العراقية فرصة ثمينة في الانفتاح على مناطق جديدة كان من الممكن ان تزيد من تنوعها وتفاعلها مع متغيرات الحياة وما يشهده الواقع من تحولات وانعكاس في وعي وثقافة الإنسان.
وعلى العكس مما شهدته التجربة العراقية نجد ان الأغنية وخلال الخمسين عاما الماضية في عدد من البلدان العربية كما في المغرب ومصر، قد أثمرت عن تجارب فردية وجماعية متنوعة حاولت كسر النمطية القائمة في السياق العام الغنائي، وتمكنت من الاستمرار والتواصل مع الأجيال اللاحقة وأبرز الأمثلة على ذلك فرقة «جيل جيلاله وناس الغيوان» في المغرب العربي «والشيخ إمام واحمد فؤاد نجم» في مصر، وإذا ما اقتربنا من ظاهر المشهد الغنائي في تلك البلدان واستغرقنا في تجلياته، سنجد ثمرة تلك التجارب ما زالت يانعة في عدد من الفرق والاصوات التي استلهمت حضورها المميز منها، بينما انقطعت تجربتا عزيز علي وجعفر حسن عن شجرة الأغنية العراقية.
11ADA
مروان ياسين الدليمي
هنااك اغاني للمطرب فؤاد سالم لم يتم الترويج لها ربما بسبب هروبه من العراق او بسبب انتمائه السياسي وهي اغاني تتغنى بالمدينة كما في اغنية (ابو بلم عشاري والشوك للبصرة) وهناك اغنية ضحكة حبيبي المعروفة ب (روجات المشرح) وكذلك اغاني تحاكي اغاني فيروز مثل (ثلاث نخلات ورن خلخال) وتبقى انتكاسة الاغنية العراقية في الثمانينييات من القرن الماضي بسبب الحرب العراقية الايرانية بعد ان عاشت في مرحلة السبعينات احلى ايامها, ولكن لا يمكن ان ننسى اضافات الفنان كاظم الساهر لالاغنية العراقية