الهجمات التي تعرضت لها كنيستان قبطيتان في مدينيتن مصريتين كانت هجمات على أقباط مصر جميعاً، وبلا تمييز، وتكشف عن مستوى الاستهتار الإجرامي والعبثي بالحياة الإنسانية الذي انحدر إليه من فكر ومن أمر ومن نفذ هذه الهجمات.
لم يكن المقصود في هذه الهجمات شخصاً بعينه، أو مجموعة بعينها من الأشخاص، لهذا السبب أو ذاك، ولدافع سياسي أو آخر. كان المقصود الأقباط ككل، الجماعة القبطية بما هي، وكما هي عادة أبناء هذه الجماعة في التعبد في كنائسهم. وكان طبيعياً، ومتوقعاً، أن يصب الأقباط جام غضبهم على داعش وعلى النظام، داعش التي تبنت المسؤولية عن الهجمات، والنظام الذي أخفق في توفير الحماية الضرورية لمواطنيه، بينما تنشط أجهزته الأمنية في اعتقال وإخفاء واغتيال المعارضين، ليلاً ونهاراً. ولكن هذا الغضب والاتهام ليس كافياً، ولا يبدو أنه يطرح جملة الأسئلة الضرورية التي كان يجب أن تطرحها هذه الهجمات العبثية الإجرامية. ثمة من يجب أن يسأل عن مسؤوليته في بناء صورة مختلفة لأقباط مصر، من عمل على وسعى لأن يقدم الأقباط ليس باعتبارهم مواطنين مصريين، بل ملة وحدهم، جماعة دينية مختلفة ومستقلة، وذات حدود فاصلة عن عموم المصريين، بالرغم من أنهم يعيشون وسط هذا العموم وداخله.
ينقسم المصريون، موقعاً وفكراً وسياسة، إلى عشرات الأطياف. هناك مصريون ريفيون، وآخرون حضريون؛ مصريون معارضون لنظام الحكم الانقلابي، وآخرون مؤيدون له؛ مصريون محافظون أو متدينون، وآخرون حداثيون وعلمانيون؛ مصريون يمارسون اضطهاد وقمع شعبهم، وآخرون هدفاً للاضطهاد والقمع؛ ومصريون فقراء أو على حافة الفقر، وآخرون أثرياء. ولكن هذا التنوع في أطياف المصريين، لا يبدو أنه ينطبق على الأقباط، بل على الأغلبية المسلمة فقط. الأقباط لا ينظر إليهم إلا ككل مصمت، جماعة واحدة، تمثلها وتتحدث باسمها الكنيسة القبطية، ومن يقف على رأس هذه الكنيسة أو يتحدث باسمها. في الحقيقة وواقع الحال، لا يختلف الأقباط في أطيافهم عن بقية مواطنيهم، فهم، أيضاً، فقراء وأغنياء، محافظون وحداثيون، متدينون وعلمانيون، موالون لنظام الحكم ومعارضون، رجال أمن، ومعتقلون. ولكن، ولسبب ما لا يراد للأقباط أن يظهروا كذلك، ولا أن تؤسس علاقتهم بالدولة ونظام الحكم، أو ببقية المصريين، على مفهوم المواطنة.
وليست داعش فقط من يعتبر الأقباط جماعة واحدة، بلا أصناف ولا أطياف، وقام بهجماته الدموية القاتلة عليهم ككل، وبلا تمييز. الرئيس المصري، حارس الدولة الجمهورية، الدولة التي تجسد مصر الحديثة؛ الرئيس الذي يفترض به التعامل مع شعبه باعتبارهم مواطنيين متساويين أمام مؤسسات الدولة والحكم والقانون، تصرف هو الآخر كما داعش. مستبطناً الوضع الملي المستقل للأقباط، قام الرئيس بزيارة الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة، وقدم فروض العزاء لرئيس الكنيسة القبطية تواضروس، مضيفاً إلى واجب العزاء بعضاً من مظاهر الحزن البالغ والدموع، التي لا يقصد بها بالطبع سوى محاولة امتصاص موجة الغضب القبطي. تعرضت مصر لعشرات المآسي في السنوات القليلة الماضية، بعضها تسبب به إرهاب الدولة، وأخرى تسبب بها إرهاب جماعات مسلحة، وبعضها الآخر تسبب به الإهمال أو قوى الطبيعة. فهل ذهب الرئيس مرة واحدة إلى شيخ الأزهر لتعزيته في مقتل مصريين مسلمين؟ لماذا تتعامل الدولة وحاكمها مع الكنيسة باعتبارها الجهة التي تمثل الأقباط المصريين؟ لماذا تنظر الدولة إلى المصريين المسلمين، فقط، كمواطنين لها، أما الأقباط فجماعة ملية منفصلة؟
الحقيقة، أن هذا الموقع الغريب الذي يحتله الأقباط في الجمهورية المصرية ولد من تواطؤ ضمني بين نظام مبارك وقيادة الكنيسة السابقة، ممثلة بالراحل شنودة. وهو موقع غريب، ليس فقط لأنه يصطدم بالسمات الأساسية للدولة الحديثة، وبمفهوم المواطنة، الذي تستند إليه، ولكن أيضاً لأنه يعد تراجعاً عن مطالب واندفاعة التيار العام للمثقفين والمفكرين المصريين الأقباط منذ نهاية القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين. فمنذ بدأت رياح التحديث تعصف بالمشرق، أخذ المثقفون المسيحيون العرب، بما في ذلك المصريون منهم، المطالبة بالتخلي عن نظام الملل، الذي استند إليه الاجتماع السياسي العثماني، واعتماد مبدأ المواطنة. كان نظام الملل هو الذي حافظ على الأقليات وعلى التعددية الدينية في المشرق، ولكن عدداً ملموساً من المثقفين العثمانيين غير المسلمين، ومن ثم المسلمون أيضاً، وجد أن مبدأ المواطنة وحده الكفيل بتحقيق المساواة. مهما كان الأمر، وبغض النظر عن الجدل حول أفضلية أي منهما، فقد كانت مؤسسات الحكم في اسطنبول والقاهرة وتونس، وفي وقت واحد تقريباً، تتحول إلى مؤسسات دولة حديثة على النمط الأوروبي، وأصبح من المنطقي إلغاء نظام الملل واعتماد مبدأ المواطنة. في مصر، على وجه الخصوص، ومنذ دستور إسماعيل باشا، وبعد ذلك خلال حقبة السيطرة البريطانية، تطور بناء الدولة المصرية الحديثة، كما نعرفها اليوم، بصورة حثيثة، وبدون تراجعات ملموسة.
بيد أن ولادة وتطور الحديثة لم يضع نهاية للتوتر الديني داخل مصر؛ بل على العكس، زاد من هذه التوترات. الدولة الحديثة، ببنيتها المركزية، هي على العموم دولة الأغلبية، والمسيحيون المصريون ينتشرون في أنحاء البلاد، وليسوا محصورين في بقعة جغرافية محددة. كما أن قدراً من التمييز في أجهزة الدولة ظل متواجداً في بعض مؤسسات الدولة ودوائرها. وهذا ما ولد حركة مطلبية قبطية، سيما بعد نهاية حكم الحزب الواحد في سبعينات القرن العشرين. ولكن الانعطافة الرئيسية وقعت مع اختيار الأنبا شنودة رئيساً للكنيسة القبطية. ليس ثمة مصدر أكاديمي رصين درس حياة وبروز الأنبا شنودة وتكوينه الفكري، ولكن سيرته في قيادة الكنيسة تكشف عن طموح جامح لتحويل الكنيسة إلى ممثل وحيد للأقباط المصريين، حتى إن استدعى تحقيق هذا الهدف صداماً مع الدولة، من جهة، وقمعاً للأصوات القبطية التي رأت في هذا التوجه نكوصاً إلى ما يشبه نظام الملل، ودعت إلى تعزيز مبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنين. في البداية، قاومت الدولة المصرية في عصري السادات وعشريتي ولاية مبارك الأوليتين، توجهات شنودة. ولكن، ولأن قوة الدولة أخذت في التراجع على كافة المستويات في عشرية مبارك الثالثة والأخيرة، فسرعان ما حقق شنودة هدفه الرئيسي، وبدأت الدولة، وإن على مضض، تتعامل مع الكنيسة باعتبارها ممثل الجماعة القبطية والمتحدث باسمها. دستورياً وقانونياً، يعتبر القبطي المصري مواطناً، فرداً، سواء في علاقته بأجهزة الدولة أو أمام القضاء. فعلياً وواقعاً، أصبح ينظر إلى الجماعة القبطية باعتبارها كياناً دينياً، ذا حدود فئوية، ينضوي تحت سقف الكنيسة، يلتزم بتعاليمها الدينية والسياسية ـ الاجتماعية على السواء، ويأمل من الكنيسة، وليس من دولة المواطنة، العمل على تعزيز موقعه السياسي ـ الاجتماعي. وما إن وجدت الدول الغربية، سيما الولايات المتحدة، أن الدولة المصرية تعايشت مع الوضع الجديد، حتى أصبحت هي الأخرى تتعامل مع الكنيسة على أساس تمثيلها للجماعة القبطية. وليس كما انقلاب تموز/يوليو 2013 أن برز هذا الخلل في الاجتماع السياسي المصري في صورته الأكثر تجلياً وفداحة؛ عندما دعت الكنيسة، تحت قيادة تواضروس، أقباط مصر إلى تأييد الانقلاب والاصطفاف خلف قائده. وفي رد للجميل، أظهر الجنرال السيسي قبوله وسعادته بالعلاقة الجديدة بين الدولة ومواطنيها الأقباط، مؤكداً على ممارسة هذه العلاقة من خلال القناة الكنسية، والقناة الكنسية وحسب.
ثمة أصوات قبطية طالما حذرت، في مواجهة القمع الكنسي، من مخاطر هذه العلاقة المختلة بين دولة المواطنة المصرية، من جهة، والكنيسة والمواطنين الأقباط، من جهة أخرى. ولكن أصواتهم ذهب، في أغلب الأحول، أدراج الرياح. الآن، وقد تحولت البلاد إلى ساحة لنشاطات داعش وإرهابها، بدأ الأقباط في دفع ثمن هذا النكوص في بنية الدولة المصرية الحديثة.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع
المسيحية في مصر ولبنان وسوريا ليست فقط ديانة بل هي ثقافة ونمط حياة ورؤية وجودية تختلف تماما عن الاسلام. اللغة الواحدة لا يعني ثقافة واحدة وإلا لاعتبرنا الافارقة فرنسيين أو انكليزيين لان الفرنسية والانكليزية لغاتهم الرسمية
اولا ،، في الحقيقه ليس هناك اسلام او مسيحيه ، ولا كن هناك ممن يعتبرون أنفسهم مسلمون ومسيحيون، وكل فرد يفسر دينه ومعتقداته حسب تفكيره وبعض ماتربى عليه ، والدين في النهايه ليس هويه وليس ثقافه ، انه دين ، ومعتقدات ، واتحدى اي شخص تميز المصري المسلم او المسيحي القاطن بالصعيد ، ولكن غياب الدوله الوطنيه ، والتهرب من محاكات التاريخ العربي الاسلامي بنقد علمي وجذري ، ومشكلة الأزهر الحاليّه دليل على ذلك ، هو ما يحث الأفراد للهجره لمستنقعات الوهم والبداءيه والتخلف والطائفيه والرزيله، والموت في النهايه.