لو وضع الناس في أذهانهم أن الثورات التي يقومون بها ستُسرَق، واستكانوا، لكنا نسير اليوم وأيدينا في القيود وأقدامنا، لكن البشر لحسن الحظ لم يفكروا بهذه الطريقة، ولذا نرى اليوم بلادا حرة وأعلاما مرفوعة وأناشيد وطنية تحتضن بدفء كلماتها وقوة موسيقاها أرواح كل من قضوا في مسيرة الحرية دفاعا عن معنى الوجود ومعنى الجمال.
وحين نصل إلى القضية الفلسطينية، نصل إلى عمرها أكثر من قرن وربع القرن، لم يتوقف فيها هذا الشعب عن الثورة، إلا لحشد روحه تمهيدا لثورة جديدة.
منذ انطلاق الانتفاضة الثالثة، طفت في هوائنا الملوث بكائيات الحرص المريض، بل والسخرية أحيانا مما يحدث، كما لو أن هذه الأصوات تتحدث عن شعب (طائش)، (متهوِّر)، كان عليه أن يتمّهل قليلا، كي تنضج الظروف، وتتحرك الجيوش لتحريره، وتلك نغمة ليست جديدة، فقد تكررت في عام النكبة حتى أصمَّت الآذان، حين راحت جيوش الإنقاذ تجمع السلاح من أيدي الفلسطينيين، لتخلصهم من فوضى قتالهم وثورة مشاعرهم وقوة اندفاع أرواحهم الغاضبة! لا لشيء إلا لتستطيع تلك الجيوش، وما خلفها من أنظمة تنظيم حبِّ الناس للحرية وحمايتهم من شغفهم المريض بها!
يتحدث هؤلاء عن هذه الانتفاضة، كما تحدثوا هم، أو أشباههم عن انتفاضات سبقت، وكأن على الفلسطيني أن ينتظر إشارة الانطلاق منهم، لكي يثور. يتحدث هؤلاء وكأنهم على ثقة من جيوش أعدَّت خططها وأنظمة هيأت نفسها، ولم يبق بينها وبين التحرك سوى ساعة الصفر، لكن هذه الانتفاضة جاءت لتفسد خطة التحرير التي يعملون على حبكها منذ عام النكبة!
إنهم يتحدثون عن جيوش، أثبتت السنوات السبع والستون الماضية، أنها ليست، في معظم حالاتها، أكثر من أجهزة أمن، ليس لأنها جيوش غير وطنية، بل لأنها جيوش لم يُسمح ولا يُسمح لها أن تكون وطنية، وكل انتصارات حققتها في معاركها ضد الدولة الصهيونية، لم تتحقق إلا لأن هذه الجيوش قررت أن تتمرد على الأوامر العليا، بدءا من معارك الفالوجة عام النكبة، حين أُبلِغَتْ تلك القوات بأن القيادة ستعتبرها خسائر حرب إن لم تنسحب، مرورا بأولئك الضباط والجنود الذي دافعوا عن القدس في عام النكبة أيضا، رافضين الأوامر، فتمّ استدعاؤهم ومحاكمتهم بتهمة تبديد الذخيرة! وصولا إلى معركة الكرامة البطولية… إضافة إلى نماذج أخرى، متفرقة خاضها جندي أو ضابط شجاع رافضا أوامر الانسحاب، هنا وهناك.
في كل لحظة تمرّدت فيها هذه الجيوش انتصرت، وكانت الصورة الأصفى لأرواح شعوبنا في كل مكان. أما مواصلة الحديث عن التأني كعنوان للسلامة، ففيه قدر مرعب من التضليل والاستخفاف بعقول البشر.
الثورات لا تندلع وفقا للظروف الملائمة المحيطة، بل تندلع لأن البشر لم يعودوا قادرين على أن يكونوا عبيدا لفترة أطول، تندلع حين يصل منسوب الغضب في داخلهم إلى حدّ لا تستطيع أي قوة أن تكبحه.
لم تكن ثورة 1936 إلا نموذجا لذلك، وهي المحاصرة بقوة وهمجية جيش الإمبراطورية البريطانية، والقوة الصاعدة للصهيونية الفاشية، ولم تكن لحظة انطلاق الثورة الفلسطينية الحديثة عام 1965 لحظة ملائمة، في مقاييس التأني التي يريد هؤلاء أن يجعلوا الشعب الفلسطيني يلتزم بها باعتبارها زبدة المواصفات والمقاييس التي لا بدّ من توافرها قبل أن تندلع الثورة، فقد كان الترهل ومعه الخيبات وظروف الشتات والقمع تطحن الفلسطيني في منافيه حينها. ولم تكن انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الظرف الأنسب الذي يهلل له هؤلاء، كانت المقاومة قد تشتت بين ماءين وأكثر من صحراء، والحال العربي كما كان دائما، طواحين تدور وليس ثمة قمح يطحن.
إنهم يتباكون على الشباب ويكتبون معلقات الهجاء فيهم؛ كما لو أن كل من يقف مع الثورة يدعو الشباب إلى الموت المجاني، أو إلى الاستشهاد المجاني.
لا نريد لأيّ شاب أن يستشهد، نريد له أن يعيش ليرى يوم حريته وحرية شعبه، ونقول له: لتكن أول الوصايا وأعظمها: لا تمت. نريدك حيا، لأن البطولة أن تستطيع القتال غدا، ولكننا نعرف أن هذا لن يكون ممكنا في كل معركة، في كل مظاهرة، في كل طلعة لكَ في زمن لم تعد الطلعات الجوية في قاموس طيراننا العربي، إلا إذا كان الهدف دكُّ مدينة عربية.
كان درّة الشعر المصري أمل دنقل يقول:
قلت لكم مرارا..
إن المدافع التي تصطفّ على الحدود، في الصحارى
لا تطلق النيران إلا حين تستدير للوراء
إن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواءْ
لا تقتل الأعداءْ
لكنها تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا
لكن أسوأ تجليات دعاة «في التأني السلامة» أنهم تجاوزوا حدود السخرية من سكاكين الفلسطيني، ووصلوا إلى السخرية ممن يناصرون الفلسطيني، وسخّفوا مظاهرات التأييد، وحجّتهم أن عالمنا العربي يعيش لحظات وَهَن لا يحتمل فيها الوضع أن تقول الشعوب بصوت عال: لا للصهيونية ولا لجرائمها.
لماذا لا يصبح وضعنا العربي هشّا، ولا يحتمل، إلا إذا نزل الناس للشوارع لنصرة فلسطين؟!
سنكون أكثر وهنا في الغد، إن لم نقل اليوم: لا، كما قالها البشر مطلع هذا الأسبوع في أكثر من سبعين مدينة في العالم في وقت واحد. إن فلسطين تعطينا اليوم، كما أعطتنا دائما الفرص الذهبية لتجاوز وهَنِنا وضعفنا وبلادة ضمائرنا.
يحزنني أن تسأل شرطية إنجليزية ابنتي في لندن يوم السبت الماضي في مظاهرة نصرة فلسطين: هل كل شيء يسير معك كما تتمنين؟ في الوقت الذي تنهال فيه الهراوات على ابني في مظاهرة عمّان، وأقذع الشتائم أيضا، وهو مكبّل اليدين خلف الظهر.
إلى المحكمة ساقت قوات الأمن الأردنية ذلك الذي شتم الأقصى، وعلى بعد خطوات كانت قوات الأمن نفسها تحطّم أذرع وأرجل الشباب الذين يهتفون للأقصى! وإدارة أكبر الجامعات تفصل طالبين سنة دراسية عقابا على الهتاف للأقصى، أو للشيخ ياسين حسب قول الجامعة! ومسؤول كبير سابق يدعو إلى تكسير عظام أيدي من يقتربون من السفارة! فلم نعد قادرين أن نفهم، كيف يمكن أن يكون الأقصى مقدّسا في أعينهم، وكيف يحرصون كل هذا الحرص على أن تظل (إسرائيل) وسفاراتها ومجرموها مقدّسين أيضا؟!
وبعد:
جوهر الانتفاضة: أريد أن أعيش وأن أموت كما أريد،
لا أن تقتلني متى تريد.
إبراهيم نصر الله
جوهر الانتفاضة: أريد أن أعيش وأن أموت كما أريد،
لا أن تقتلني متى تريد. – انتهى الاقتباس –
لقد أبدعت يا أستاذ ابراهيم بهذا الرصف المبدع
بالطبع تقصد الحرية بالحياة – والسيادة بالممات
اللهم ثبت أقدام المجاهدين في فلسطين المباركة
ولا حول ولا قوة الا بالله
يا سيد ابراهيم،كلنا نحزن للدم الفلسطيني ،وأتذكر شعر المرحوم ابراهيم طوقان الفلسطيني الذي عاش النكبة،وصدق حين قال،
بلاد باعها بالسحت سمسار وخوان ،،،،وأهل لولا الغدر ما شردوا ولا هانوا