حين رفع جمال عبد الناصر لواء الوحدة العربية على أساس الانتماء القومي كان يحلم بلملمة الشتات، ولكن باساليب غير قابلة لتحقيق المطلوب منها. فكما ان النكبة كانت من اهم نتائج ضعف الكيان العربي وفي مقدمة اسبابه كذلك، فان النكسة التي حدثت بعدها بعشرين عاما، كانت هي الاخرى مدخلا لحقبة جديدة لمراجعة النفس واستيعاب الاسباب الحقيقية لما جرى في 1948 ثم 1967.
وبرغم ما قيل ويقال عن المشروع الإسلامي الذي رفع لواءه عدد من الوجودات التنظيمية المؤسسة على الإسلام، فان الدين، من حيث القوة، قادر على تحقيق شيء من الوحدة. ولكن سرعان ما انقضت عليها الاطراف التي تعلم ان وحدة امة العرب والمسلمين خط أحمر يمنع الوصول اليه. لقد انقضى قرابة نصف قرن من محاولات لملمة الشمل ولكن اتضح الآن ان الدولة القومية هي الخيار المفضل لدى الباحثين عن النفط او المال او النفوذ او الحكم. واصحاب هذه الاهداف توحدوا ضد اصحاب المشروع الإسلامي الذي، اصيب بعد الربيع العربي بضربات موجعة، خصوصا في شقه السني. وتمثل ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية ونمطها في الحكم وسرعة انتشارها ضربة اخرى للمشروع السياسي الإسلامي، خصوصا انها ادت لغموض اكبر وتشوش ذهني واخلاقي اعمق.
وبرغم التجارب التاريخية غير المثالية فان التئام شمل المسلمين ضمن اطار جامع امر يساهم في تكريس الامن والسلام الدوليين، ويوفر للمسلمين القدرة على العمل المشترك الذي يتجاوز الحواجز العرقية والمذهبية، بل الدينية ايضا. فتسجل كتب التاريخ ان اليهود استطاعوا العيش بسلام ضمن الدولة الإسلامية خلال التاريخ. وحين خرج المسلمون من الاندلس رحل اليهود معهم ليأمنوا على انفسهم. واضطهاد اليهود في اوروبا لم يتراجع الا في العقود الاخيرة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية.
كانت حقبة الاستعمار خصوصا قبل قرن واحد صعبة على المسلمين، فما من بلد مسلم الا تعرض للاحتلال والاستعمار. وبعد نشوب الحرب العالمية الاولى ارتأى الغربيون تقسيم العالم العربي إلى مناطق نفوذ لدولهم. ومع اقتراب الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو يراود الكثيرين شعور بان مسلسل التقسيم مستمر. الفرق هذه المرة انه يتم على ايدي المسلمين انفسهم، وليس باتفاق الدول الغربية كما حدث سابقا. هذه المرة اصبح داء التقسيم أخطر كثيرا، فليس هناك كيان سياسي واحد للمسلمين، بل هناك دول مقسمة محكومة بانظمة مدعومة من الغرب، وفاقدة في اغلبها للشرعية الشعبية، وتفتقر للايديولوجية التي تدفع للتوحد وتتصدى للتقسيم. هذه المرة يجرى التقسيم على ايدي المجموعات المتطرفة التي مارست خلال بضع سنوات من اسباب التقسيم والتدمير الداخلي للامة ما لم يحدث حتى في عهد الاستعمار. هذه المرة تتم بشكل ممنهج امور عديدة: اولها غرس بذور الشقاق بين مكونات الامة وفق خطوط التمايز العرقي او المذهبي او حتى الديني، فيتم غرس الحقد والنزعة للثأرات الدموية بسبب حمامات الدم التي ما تزال تجري في مناطق عديدة. ثانيها: يمارس تقسيم البلدان الكبرى نسبيا كالعراق وسوريا وليبيا بشكل يصعب التراجع عنه لاحقا بعد ان تتم عمليات الابادة والقتل الجماعي ويتحول اخوة الدين والعقيدة والتاريخ والجغرافيا إلى أعداء ألداء يستمتع كل منهم بسفك دم الآخر. ثالثها: ان الدول الغربية لا تمارس التقسيم مباشرة بل تمارس دورا خلفيا خبيثا بالتظاهر بالتصدي للمجموعات المتطرفة وشن الغارات العسكرية عليها، ولكنها في الواقع تنظر لما يجري من زوايا ثلاث: اولا انه شأن داخلي للعرب او المسلمين، ثانيا انه يحقق اهدافها الاستراتيجية في اضعاف الامة وتمزيقها، وثالثا انه يجعل القوى الغربية في موقع املاء الشروط ويوفر لها القدرة على العودة واكمال مشوار التفتيت والاحتلال. وحين يستذكر العرب والمسلمون والغربيون اتفاقية سايكس بيكو العام المقبل، فسيكون الوضع مهيأ لاتفاقية ثانية اخطر من الاولى. التمزيق هذه المرة يحدث بارادة داخلية لدى بعض قطاعات الامة، التي تستغل غفلة الكثيرين وتلعب على عواطفهم وتتناغم مع مقولات تاريخية تحظى بقبول لدى قطاعات واسعة مثل «الخلافة» و «الدولة الإسلامية» و «الشريعة».
وليس التقسيم وحده الذي يحدث على ايدي ابناء الامة. بل ان هناك سياسات متوازية لاضعاف الامة على صعدان شتى. فما يجري على صعيد النفط انما يشير إلى سياسة متعمدة لاضعاف القدرات الاقتصادية للدول العربية والإسلامية الكبرى، كالجزائر ونيجيريا والعراق وإيران واندونيسيا. هذه الحرب الاقتصادية تنفذ بأيد عربية مسلمة، بشكل علني ومتواصل. وهي حرب ليست موجهة ضد عدو او طرف بعيد، بل ان الشعوب هي المتضررة اولا واخيرا. وهذا الضرر لا يحدث فورا بل ياخذ مداه حتى تتفاعل كافة العوامل المجتمعية فتصبح نتائجه كارثية. يتم ذلك في ظل تغييب الوعي العام وتضليل الجماهير من قبل اجهزة إعلام اصبحت ادوات في حرب الامة ضد نفسها. فما تبثه القنوات العربية، يترواح ما بين التضليل وقلب الحقائق إلى السب والشتم والقذف للاطراف المستهدفة. واثارة المشاعر من منطلقات دينية اخطر من اية اثارات اخرى، لان الدين مرتبط بالوجدان وفاعل في تحريك كوامن البشر. فالانسان الذي يخشى عادة من الخدش او الاذى الناجم عن المرض او الاصابة، يعاد صياغة عقله ونفسيته ليصبح متلهفا للقتل والتنكيل والسادية المفرطة، الامر المؤذي حقا ان يصادر المشروع الشعبي للتغيير الذي انطلق قبل اربعة اعوام بأيدي الانظمة المراد تغييرها، فاذا بها تمعن في التنكيل وتبالغ في الانتقام وتدخل الامة في دوامة من الضياع والجهل وحلقة مفرغة من العبثية والجاهلية التي جاء الإسلام لانقاذها منها. يتم هذا بايد إسلامية فتيجاوز في آثاره ومسببات الغضب ما احتواه مشروع التقسيم الذي تصدرته قوى الغرب وعمدت لتنفيذه طوال قرن كامل.
هذا ما جرى في العراق والبحرين وسوريا ولبنان ومصر وليبيا واخيرا في اليمن. فكيف تمكنت القوى الاجنبية من اعادة توجيه الزحف الشعبي الذي اظهر القوى الكامنة لدى الشعوب، من تحويل مساره ليصبح عدو نفسه ويبدأ بتقطيع اوصال الامة وفق خطوط التمايز الديني او العرقي او المذهبي؟ فبالاضافة لتصدع العراق وسوريا وليبيا اصبح اليمن على طريق التفتيت. هذه المرة استخدمت نغمة جديدة قديمة لفرض واقع من يمنين، شمالي وجنوبي، وتلاشت بذلك مقولات الوحدة التي حدثت في 1991. وبدلا من محاولات الاصلاح تم تكريس التخندق مجددا، فاصبحت المواقف تؤسس وفق معايير الانتماء المذهبي بدلا من قيم التعايش والتفاهم والحوار بعيدا عن تلك الخصوصيات.
اما القضايا الجوهرية للامة فقد اهملت تماما. فبرغم اكتظاظ السجون بعشرات الآلاف من المواطنين في مصر والشام وبعض دول الخليج، فان احدا لم يعد يهمه هذا السقوط الاخلاقي والانساني والسياسي المدمر. انها حقبة تفوق في شرورها ومؤامراتها ما عانت الامة منه في العقود السابقة. بينما ترزح الشعوب العربية في ظل قمع سياسي واضطهاد ديني غير مسبوقين، بل ان بعض الشعوب تعيش أسوأ اوضاعها الاقتصادية نتيجة هذه السياسات الرعناء. فقد مر اكثر من ثمانية شهور على الحرب المدمرة التي شنتها «اسرائيل» على غزة، وحولتها اطلالا تعيد إلى الذاكرة مشاهد الدمار في الحرب العالمية الثانية، بعد هذه الفترة الطويلة ما يزال اهل غزة ينتظرون الدعم الذي وعدوا فيه بعد وقف العدوان في مؤتمر اعمار غزة الذي عقد بالقاهرة في شهر تشرين الاول/اكتوبر الماضي. لم يصل منها ما يستحق الذكر. وقضى اهل غزة شتاءهم هذا في أسوأ الاوضاع، وسط دمار هائل غير مسبوق. اهل غزة يستغيثون ويتساءلون عما حدث للاموال التي وعدوا بها عندما تسابقت الدول لاعلان المساعدات في ذلك المؤتمر.
في الماضي نهبت آثار العرب والمسلمين خلال الحقبة الاستعمارية، وامتلأت بها متاحف الغرب، ولكنها بقيت محفوظة ينفق عليها الكثير للحفاظ عليها. اليوم تمارس اكبر عملية تدمير لتراث الامة، سواء في العهود الإسلامية او التي سبقتها. معاول الهدم هذه المرة تمارس جريمتها أمام عدسات التصوير ويتم بثها عبر الشبكة الدولية، ويعتقد مرتكبوها ان ذلك التدمير عبادة تقربهم إلى الله تعالى. التخريب يحدث بايدي ابناء الامة بشكل مباشر ( وان كانت ثمة شكوك قوية بوجود أيد خفية تحرك هؤلاء لخدمة اجندات غربية واسرائيلية). عملية القضاء على الآثار الإسلامية ابتدأت في الجزيرة العربية قبل تسعة عقود وتوسعت اكثر في الحقبة الحالية على ايدي المجموعات المتطرفة. يتواصل ذلك في غياب اهتمام عربي يذكر للتصدي لهذا العدوان على تراث الامة ومقدساتها. ويمكن القول ان التخريب الذاتي أشد خطرا من الاستهداف الخارجي، وان المظاهر المذكورة تؤكد ان الخطر الاكبر ينطلق هذه المرة من الداخل الامر الذي جعل اجتثاثه صعبا. ما العمل اذن؟ ما لم تحدث صحوة ضمير عميقة ويقظة فكرية حقيقية في اوساط النخب العلمية والدينية والسياسية والشبابية، فان الامور تشير إلى نفق طويل مظلم يفضي إلى الهاوية. هل هذا ما نريد؟
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي
التماثيل ليست آثار اسلامية يا دكتور سعيد
أما القبور التي سويت والمقامات التي هدمت بالسعودية منذ 9 عقود فهي في سبيل توحيد العقيدة بالعبودية المطلقة لله وحده لا شريك له
بسم الله الرحمن الرحيم : وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) يونس
ولا حول ولا قوة الا بالله