طالما اتسمت العلاقة بين الإدارات الأمريكية وأكراد العراق بعدم الاستقرار والتوتر والمراوحة بين الجفوة والاتهامات، التي لا تلبث أن تتحول إلى شهرعسل يطول أو يقصر حسب الظروف الدولية.
وقد اعتبرت عدة إدارات في البيت الأبيض الأكراد حليفا استراتيجيا، وربما كان أبرز تقارب بين الاثنين، كان قد حدث أبان إدارة نيكسون نهاية ستينيات القرن الماضي، التي سخرت أهم حلفائها في المنطقة لتقديم الدعم غير المحدود للتمرد الكردي، الذي كان يقوده الملا مصطفى بارزاني حينئذ، لكن حلاوة تلك العلاقة المميزة لا يمكن أن تمحو أثر مرارة التنكر والخيانة التي تعرض لها الأكراد من قبل واشنطن، وبشكل خاص من مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر عام 1975 عندما انهار التمرد الكردي واستسلم مقاتلوه. فهل يتذكر الاكراد في محنتهم الحالية تلك المحن ليستنبطوا منها الدروس؟
كان الدعم الأمريكي للتمرد الذي قاده الملا مصطفى بارزاني عام 1961 مترددا يشوبه الكثير من الشكوك من ساسة محافظين كانوا يتعاملون مع بارزاني على أنه جنرال أحمر قادم من موسكو، التي مثلت منفاه الذي لجأ له هو ومقاتلو عشيرته بعد سقوط تجربة جمهورية مهاباد المدعومة من السوفييت، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى عراق قاسم الذي أسقط النظام الملكي القريب من الأمريكان عام 1958، لكن من ناحية أخرى كان تحرك الجنرال قاسم المتسارع تجاه موسكو حافزا للامريكان لتطوير علاقتهم بالتمرد الكردي، حيث كان الامريكان يبحثون عن شريك فاعل في منطقة تمور فيها انقلابات العسكر الميالين للارتماء في حضن السوفييت ابان الحرب الباردة. وقد سخرت الولايات المتحدة في تحركها تجاه الاكراد أهم حليفين لها في المنطقة في عهد ادارة نيكسون، وهما ايران الشاه واسرائيل، اللتان مدتا التمرد الكردي بالاسلحة والمعدات والدعم اللوجستي ووفرتا التدريب والاماكن الآمنة كخلفيات للتمرد الذي اصبح نتيجة كل هذا الدعم عصيا على بغداد ومتمسكا بشروطه غير القابلة للتفاوض مع النظام.
مع اقتراب انتهاء الحرب في فيتنام، وخروج الأمريكان المخزي منها، ومحاولتهم لملمة نفوذهم في الخارج، بالإضافة إلى دخول الدعم السوفييتي لعراق البعث على المعادلة بعد حرب اكتوبر 1973، حيث جهز السوفييت الجيش العراقي بالمروحيات القتالية، التي قلبت موازين القوى على الارض وفتكت بالمتمردين المتمرسين على حرب العصابات في الجبال، وهنا ابتدأت صفحة من الجفوة في العلاقات الأمريكية الكردية، عندما تخلوا عنهم هم وحلفاؤهم الايرانيون، أمام هجمات بغداد التي انهت التمرد الكردي ولو بشكل مؤقت.
تغيرت أولويات اللعبة بعد أن شعر الاكراد بأنهم على وشك أن يتخلى عنهم الامريكان مرة اخرى، إبان الانتفاضة التي اعقبت حرب الخليج في مارس 1991، حيث حرضتهم المنشورات التي ألقتها طائرات امريكية وكذلك كلمات الرئيس جورج بوش على الثورة واسقاط نظام صدام حسين، ثم ما لبث الامريكان أن تركوهم بدون دعم يواجهون زحف فرق الحرس الجمهوري لوحدهم، ما تسبب في كارثة انسانية نتيجة هجرة كردية مليونية في مناطق الجبال التي تغطيها الثلوج على الحدود التركية، حيث مات منهم الآلاف بسبب نقص الاغذية والملاجئ في جو مفرط القسوة، ما أجج الرأي العام العالمي، الذي حركته ضغوط الفرنسيين الذي قادته دانيال ميتران زوجة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، باعتبارها خبيرة في الشأن الكردي، ما دفع إدارة بوش مرغمة على إرسال وزير خارجيتها جيمس بيكر لمناطق الجبال، حيث يتواجد عشرات الآلاف من الهاربين من رعب الحرس الجمهوري، خصوصا أن أحداث القصف الكيماوي كانت ما تزال طرية في ذاكرة الهاربين.
أصبحت العلاقة الأمريكية – الكردية اكثر دفئا بحكم ما وفرته من حماية لمنطقة كردستان من هجمات نظام صدام، لكن حتى مع هذا التقارب كانت الإدارة الأمريكية تفضل الابتعاد عن صداع العلاقات مع الأكراد، وتفضل إلقاءها على عاتق حلفائهم في لندن، باعتبارهم الاكثر خبرة في التعاطي مع المعارضين العراقيين بشكل عام، والاكراد بشكل خاص. وبقي الحال على ما هو عليه حتى في أحلك الظروف، مثل ظرف الاقتتال بين الحزبين الكرديين عام 1996 الذي أدى إلى استعانة مسعود بارزاني بعدوه اللدود صدام حسين ضد شريكه وغريمه في النضال جلال طالباني، ما دفع الامريكان إلى اتخاذ موقف صارم من الحزبين الكرديين في محاولة لضبط إيقاع عملهما.
شهر العسل الأطول في تاريخ العلاقة الأمريكية الكردية كان بعد إسقاط نظام صدام عام 2003، حتى الأزمة الاخيرة، فقد حظي الاقليم بتعامل يقترب من التعامل مع دولة مستقلة من قبل الامريكان، وتكلل الدعم العسكري واللوجستي في معارك التصدي لهجمات «داعش» الارهابية بعد 2014، وحتى إبان الازمة الاخيرة التي حدثت بين بغداد واربيل، كانت السياسة الأمريكية الرسمية أقرب لـ»الطبطبة» على الطرفين والإشارة إلى أهمية الحلول عبر الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لكن مع اقتراب نهاية معارك تحرير مدن العراق، وإعلان الرئيس المنتهية ولايته مسعود بارزاني في يونيو الماضي نيته اجراء استفتاء في الاقليم حول تقرير المصير، تغير الموقف الامريكي، حيث طلب الامريكان من بارزاني تأجيل امر الاستفتاء، لأن الاولوية هي لمواجهة تنظيم «داعش»، وأن الدعم الذي يقدمه الامريكان لبغداد واربيل مشروط بتعاونهما للقضاء على الارهاب، لكن إصرار بارزاني على المضي قدما في الاستفتاء كان امرا غير مفهوم للشركاء في العراق والاقليم والعالم.
وفي زيارة المسؤولين الامريكيين الرسميين للاقليم، قبيل إجراء الاستفتاء في 25 سبتمبر الماضي، قدموا عرضا لا يمكن رفضه لرئيس الإقليم بارزاني، الذي تضمن تعهدا بدعم مشروعه، إذا ما تم تأجيل الأمر لمدة تمتد من سنة إلى سنتين، لكنه رفض العرض وهذا ما يدينه عليه اليوم حتى اقرب شركائه بسبب خسارة اكبر واهم عرض في تاريخ الاكراد المعاصر، الذي كان يمكن أن يقربهم من حلم تحقيق الدولة القومية، والنتيجة كانت وأد هذا الحلم وتأجيله لاجل غير معلوم. كما يعزو البعض التحرك الواثق لحكومة بغداد في الازمة الاخيرة وإحكام سيطرتها على محافظة كركوك الغنية بالبترول والمناطق الاخرى المتنازع عليها، بالسرعة التي تم بها الامر، بسبب حصولها على ضوء اخضر من الامريكان.
وقد كانت تصريحات القيادات العسكرية في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة واضحة الميل للقوات الحكومية العراقية، على الرغم من تأكيدها على قلقها من التوتر العسكري بين الطرفين، ومحاولة دفع بغداد واربيل للجلوس إلى طاولة المفاوضات، للوصول إلى حلول تجنب المنطقة حربا إقليمية، حيث حذرت وزارة الدفاع الأمريكية كلا من بغداد وأربيل من أية خطوة تصعيدية. وقال المتحدث باسم البنتاغون، في تصريح صحافي يوم 15 اكتوبر «حذرنا كل الأطراف وبشكل صارم من اتخاذ أية خطوة تؤدي إلى تصعيد التواترات»، مؤكدا على أن البنتاغون «ضد العنف من أي طرف كان، وتطالب بعدم اتخاذ أية خطوة تؤدي إلى صرف النظر عن الحرب على تنظيم «داعش» ودفع العراق إلى المزيد من عدم الاستقرار». وأضاف، أن «أمريكا مستمرة بدعم عراق موحد رغم استفتاء حكومة إقليم كردستان والقرارات الأحادية الجانب»، مشيرا إلى أن «الحوار أفضل الخيارات لتفريغ التوترات ومعالجة القضايا العالقة وفق الدستور العراقي».
لكن يبقى السؤال الأهم الذي يطرحه المراقبون الان، وهو كيف ستتعامل إدارة ترامب مع تغول الدور الايراني الذي نتج عن التغيرات الاخيرة في العراق، خصوصا بعدما أشاد الكثيرون بدور الجنرال قاسم سليماني في إجراء صفقة السيطرة على كركوك بدون حرب، عبر التفاوض والضغط على حزب الاتحاد الوطني الكردستاني للتقارب مع بغداد. وربما يرى البعض أن محاولات دخول السعودية على خط تحسين العلاقات مع بغداد تنضوي تحت محاولة التصدي، أو على الاقل موازنة الدور الايراني في بغداد، وهذا ما ستكشفه نتائج الزيارة الاخيرة لرئيس الوزراء العراقي إلى الرياض، ونتائج الاتفاقات الثنائية بين البلدين.
كاتب عراقي
صادق الطائي