الأميرة والإمام والشاعر: قصة صورة

عندما تجتمع خيوط القدر في لحظة تاريخية تتكثف وتتقطر لتتجمد في لقطة فوتوغرافية، تتقاطع مصائر شخصيات مرت وتعارفت ثم افترقت، كلا في طريقه وصولا إلى قدرها المحتوم.
هذا ما يمكن أن تعلق به عندما تشاهد صورة نادرة للإمام محمد عبده مع الأميرة نازلي فاضل حفيدة محمد علي باشا الكبير، والشاعر والصحافي التركي علي كمال.
صورة غير عادية أثارت ضجة كبيرة عندما نشرتها مجلة «الاثنين والدنيا» عام 1942 التي تصدر عن دار الهلال التي كان يديرها نجلا الكاتب والمؤرخ جورجي زيدان (اميل زيدان وشكري زيدان) للاستاذ الإمام بملابسه الدينية وعمامته البيضاء ولحيته البيضاء، حيث يبدو واقفا وهو يتكئ بمرفقه على سياج متنزه باريسي بينما تقف سيدتان إلى يمينه والى شماله، وهما تنظران إليه بينما هو ينظر في عين العدسة، ويجلس على الأرض أمامهم الشاعر التركي علي كمال وهو بالملابس الاوروبية بشاربه المعقوف ونظارته الطبية التي يحدق عبرها بعدسة الكاميرا بينما جلست على يمينه سيدة تحدق به في هيام وعلى يساره سيدة تحتضن كتابا مفتوحا وهي تنظر إلى الشاعر. كتب تحت الصورة تعليق يقول، صورة تاريخية للاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عندما كان في باريس، ونرى إلى يمينه الأميرة نازلي وقد جلس امامهما الصحافي التركي علي بك كمال الذي شنقه الكماليون.
الصورة أثارت جدلا واسعا عند نشرها، وهاجمها البعض متهما الناشر بانها صورة مفبركة الغاية منها النيل من مكانة الإمام بسبب وقوفه وتصوره مع سيدات غير محجبات، لكن الناشر أكد مصداقية الصورة واشار إلى العلاقة القوية التي تربط الشخصيات التي ظهرت فيها وهم الاميرة والإمام والشاعر الصحافي، بدون الاشارة إلى بقية السيدات أو المناسبة التي جمعتهم، وقد اعتقد البعض أن الصورة التقطت في فترة مكوث الشيخ محمد عبده في باريس إبان اشتغاله مع استاذه جمال الدين الافغاني عندما دعاه من منفاه في بيروت للقدوم إلى باريس والعمل معا على إصدار جريدة «العروة الوثقى»، حيث مكث الشيخ في باريس (1884-1885)، لكن من البحث والحفر التاريخي في معطيات الصورة /الوثيقة سيتبين لنا غير ذلك.
ولنبدأ الحفر بتبيان كل شخصية في هذه اللحظة التاريخية، والبداية مع الشخصية شبه المجهولة في الصورة، وأعني بها الشاعر والصحافي التركي علي بك كمال، هو جد السياسي البريطاني وعمدة لندن السابق بوريس جونسون، عضو البرلمان عن حزب المحافظين الذي قاد حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي مؤخرا والذي كان مرشحا لرئاسة الوزراء بدلا من ديفيد كاميرون الذي قرر الاستقالة في اكتوبر المقبل، لكن بوريس جونسون انسحب في اللحظات الأخيرة من سباق الرئاسة.
علي بك كمال واسمه الحقيقي علي رضا، كاتب وشاعر وصحافي ليبرالي عثماني، ولد عام 1867 في اسطنبول، كان يكتب مقالاته في الصحف العثمانية باسم مستعار هو علي كمال، الاسم الذي طغى على شخصيته بعد ذلك، كان معارضا ليبراليا أبان حكم السلطان عبد الحميد الثاني، ما تسبب في نفيه من الدولة العثمانية فتجول في دول اوروبا والشرق الاوسط وتعرف على فتاة انكليزية من اصل سويسري هي (وينفريد برون) التي تزوجها في 11 سبتمبر 1903 في لندن، وعاشا فترة معا وانجبا ابنهما عثمان كمال، الذي ما لبث أن تغير اسمه ابان اشتعال الحرب العالمية الاولى ليأخذ اسم عائلة جدته لأمه التي عاش معها بعد وفاة والدته بعد ولادة اخته، وسفر ابيه إلى اسطنبول وانغماسه في الحياة السياسية، ليصبح (عثمان كمال جونسون)، لان الاتراك كانوا حلفاء الالمان اعداء البريطانيين في الحرب العالمية الاولى. عاد علي كمال إلى اسطنبول بعد الانقلاب الدستوري عام 1908، لكنه كان معارضا ليبراليا لجمعية الاتحاد والترقي الحاكمة، واصبح عضوا في البرلمان عن الحزب الليبرالي واصدر جريدته «اقدام» لسان حال الليبراليين في السلطنة العثمانية، وأدان الثلاثة الكبار في السلطنة (انور باشا وطلعت باشا وجمال باشا) الذين تورطوا في ما عرف بمذابح الارمن عام 1915، مما اكسبه الكثير من الاعداء، وبعد هزيمة القوات العثمانية في الحرب العالمية الاولى وفي خضم الفوضى التي اعقبتها، اصبح علي كمال وزيرا لمدة ثلاثة اشهر في وزارة دامات محمد فريد عام 1919، ومع الاضطراب والانفلات الذي عرف بحرب التحرير التركية التي قادها الجنرال كمال اتاتورك، كان علي كمال الليبرالي ممن ينادون بالتقارب مع الغرب ومن المؤيدين لفرض الحماية البريطانية على تركيا، لإخراجها من ربقة السلطنة العثمانية المتخلفة، ما أدى إلى اختطافه من اسطنبول عام 1922 ليحاكم في انقرة ثم يشنق على شجرة من قبل جمع من الغوغاء.
اما الشخصية الثانية المحورية في الصورة فهي الأميرة نازلي فاضل حفيدة ابراهيم باشا بن محمد علي باشا المولودة في القاهرة عام 1853م، ابوها مصطفى فاضل باشا المنافس الوحيد لأخيه الخديوي اسماعيل على عرش مصر، وعندما غير الخديوي اسماعيل قانون توريث العرش بالاتفاق مع الباب العالي في اسطنبول، نفي مصطفى فاضل باشا وتنقل مع عائلته بين اسطنبول والعواصم الاوروبية، ما اثرى حياة الاميرة الصغيرة نازلي بتعرفها على ثقافات الغرب واجادتها للغات الفرنسية والانكليزية والتركية والعربية، وبعد زواجها من وزير خارجية الدولة العثمانية شريف باشا خليل الذي عمل سفيرا للدولة العثمانية في عدد من العواصم الاوروبية توطدت صلاتها بالنخبة السياسية والثقافية في الغرب، وانعكس ذلك على سلوكها عندما انفصلت عن زوجها وعادت إلى مصر بعد خلع عمها الخديوي اسماعيل وتولي ابنه الخديوي توفيق الحكم، اذ كانت علاقتها جيدة معه.
ونتيجة تحركاتها وضغطها على الخديوي توفيق واللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني في القاهرة، استطاعت الاميرة نازلي أن تحصل على عفو عن الشيخ محمد عبده الذي كان منفيا في بيروت، ليعود إلى القاهرة عام 1889، وليرتبط مع الاميرة بعلاقة ود وصداقة مميزة، وليكون احد اهم وجوه صالونها الادبي في قصرها في منطقة عابدين خلف القصر الملكي، صالونها الذي ضم نخبة من اهم سياسي ومثقفي القرن التاسع عشر في مصر من المصريين والعرب والاجانب، وكانت ذات تأثير وسطوة، وعرف عنها تدخلها وحمايتها لمعارفها واصدقائها، من ذلك تبنيها للشاب الريفي الازهري، سعد زغلول الذي التزمته ورعته وعرفته على ابنة رئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا، صفية، التي اصبحت بعد زواجها تعرف بصفية زغلول، أم المصريين، كما أنها سعت بقوة في عهد ابن عمها الخديوي عباس حلمي لأن يتولى الشيخ محمد عبده الافتاء في الديار المصرية ليصبح الإمام مفتي الديار المصرية الذي قال عنها (حضرة البرنسيس التي لها من قلبي المنـزل الأبـهى، والمقام الأسمى) نقلا عن تلميذه محمد رشيد رضا الذي كتب كتابا عن استاذه «تاريخ الإمام». كما كان لها تأثير واضح على قاسم أمين رائد حركة تحرير المرأة، اذ كانت الاميرة نازلي وراء تغير موقفه بعد إصدار كتابه «المصريون» الذي رد فيه على الكونت داركور، مدافعا عن قيم الحجاب وعدم خروج المرأة للعمل ومنع الاختلاط، وبعد تعرف قاسم امين على الاميرة نازلي وبمشاركة الشيخ محمد عبده، كتب كتابه «تحرير المرأة» الذي طبع على نفقة الاميرة وتحت رعايتها عام 1900.
اما قصة الصورة/ الوثيقة، ومن مجموعة القرائن والأدلة والحفريات البحثية، نستطيع القول إن الاميرة نازلي فاضل التي تزوجت زيجتها الثانية من الوزير التونسي خليل بو حجاب، الشخصية التنويرية ومشاركته النشاط في الجمعية الخلدونية، كانت تقضي صيف عام 1903 في رحلة اصطيافها المعتادة في اوروبا ولابد من مرورها بالمدينة الاحب إلى قلبها، باريس، لتلتقي هناك بصديق تقدره وتعزه هو الصحافي والشاعر الليبرالي علي بك كمال الذي كان في فترة خطوبته من وينفرد برون، ومن مقارنة صورة زفافه مع الصورة الوثيقة نجد أن السيدات الثلاث في الصورة هن خطيبته واختاها، وقد تزامن في الوقت نفسه، صيف 1903، آخر رحلة للإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية إلى اوروبا، التي ذكر جزءا من تفاصيلها تلميذه محمد رشيد رضا في كتابه «تاريخ الإمام ج2 « متناولا رحلة عودة الإمام في خريف 1903 مارا بصقلية، فما كان من الاميرة الا أن تحتفي بصديقها الإمام، وصديقها الشاعر وخطيبته وعائلتها ليلتقطوا صورة تاريخية، ارخت لحظة فارقة قبيل انهيار امبراطوريات وقيام دول قومية على اسس ليبرالية، حيث كان الثلاثة (الأميرة والإمام والشاعر) يرون أن مهمة النهوض بالشرق لا تكون إلى بسلوك مسلك النهضة الاوروبية التي يجب استلهام تجربتها وتمثلها في شرق جديد، تجمعت في لحظة خيوط القدر لتعقد عقدة ثم لتنفك مصائر الثلاثة كل في اتجاه.

٭ كاتب عراقي

الأميرة والإمام والشاعر: قصة صورة

صادق الطائي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    تحية طيبة للسيد صادق استطيع ان اقول بكل تواضع ان مجهود حفرياتكم

    اثمرت ينبوع معرفة قيمة غرفت منها ، مقالك جعلني ارجح صحة معلومة

    كنت قداطلعت عليها قديما ومفادها ان قاسم امين كان قد ألف كتابه تحرير المرأة

    بمباركة من الشيخ الإمام محمد عبده

    وتحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية