تعودنا في السنوات القليلة الماضية، أنه مع صدور ترجمة أي كتاب جديد للمؤرخ التركي إلبر أورطايلي استاذ التاريخ في عدد من الجامعات الغربية والتركية، بأننا سنكون أمام إشكاليات جديدة على مستوى إعادة النظر بتاريخ الدولة العثمانية أو آخر الإمبراطوريات الرومانية (وفق تعبيره)، أو حتى على مستوى إعادة النظر بتاريخ تشكّل الجمهورية التركية الحديثة، خاصة أن مؤسسي الجمهورية كانوا باشوات الدولة العثمانية وأركان حربها قبل أفولها.
ويعد كتابه «الخلافة العثمانية: التحديث والحداثة في القرن التاسع عشر» الصادر بالإنكليزية سنة 1985، والمترجم للعربية عام 2007 عن دار قدمس في دمشق، أول الكتب الصادرة له في الحقل الثقافي العربي. وقد سعى من خلاله إلى إعادة النظر في تاريخ حياة مثقف الباب العالي في القرن التاسع عشر، الذي ظهر كفاعل جديد داخل الدولة العثمانية نتيجة إدراكه للتغيرات الثقافية ولضرورة البحث عن أساليب أخرى لإدارة البلاد، دون أن يتنكّر لماضيه، كما في حالة الصدر الأعظم محمد أمين علي باشا، الذي خرج من أفقر شريحة اجتماعية في إسطنبول، وتمكن من بناء نفسه بما يؤهله لدخول قلم الباب العالي. وهناك تعلم الفرنسية في غرف الباب العالي كمن يحفر بئرا بإبرة ـ وفق تعبير أورطايلي- لأن رجال الدولة كانوا مضطرين للكفاح ضد العالم الخارجي كل يوم.
ورغم أن هذا الكتاب لم يحظ بالانتشار الواسع في العالم العربي، إلاّ أن العديد من الباحثين المتخصصين في تاريخ القرن التاسع عشر العثماني أشادوا بجدية الطرح الذي قدمه في كتابه السالف الذكر، ولعل هذا ما دفع مترجم الكتاب عبد القادر عبد اللي، إلى الاستمرار في ترجمة كتب المؤرخ ذاته، من خلال ترجمة سلسلة من الكتب (أربعة كتب) كانت قد جمعتها دار تيماش التركية للنشر، وتتضمن السلسلة نصوصا كان قد كتبها أورطايلي لصالح بعض الصحف ووسائل الإعلام أو قدّمها في محاضرات عامة.
ورغم ما يظهر للقارئ للوهلة الأولى من أن المواد عبارة عن نصوص صغيرة، على العكس من كتب التاريخ المعتادة ذات الحجم الكبير، إلا أنه سرعان ما سيلاحظ من خلال قراءة دقيقة للنصوص، المعرفة الواسعة للمؤلف بالكتابات والمصادر الجديدة المتعلقة بتاريخ الدولة العثمانية، إضافة إلى الإلمام الكبير بتاريخ ولغات الدول المحيطة بالعثمانيين، وهو أمر غير مفاجئ إذا علمنا أن أورطايلي أحد تلامذة عالم العثمانيات الشهير خليل إينالجيك، إلا أن مكمن الغنى نجده أيضا في الكم الواسع من الملاحظات والتصويبات، التي لا تخلو أي مقالة من مقالاته منها، والتي يُصحّح عبرها قراءة بعض المصادر التي كتبت تاريخ الحياة اليومية والاجتماعية للمدينة العثمانية، ما يدفع أحيانا إلى التشكيك حتى ببعض الكتابات والتوظيفات الجديدة التي لطالما ظنّنا أنها تُسهم في إعادة استكشاف صورة جديدة للحياة العثمانية، إلا أنها وفقا لأورطايلي تعبر عن قراءات قسرية جديدة لهذا التاريخ، حتى لو أنها كُتِبت بمناهج وأدوات ومصادر جديدة.
ولعل الملاحظات حول غنى الطرح الأورطايلي يمكن أن نعثر عليها في معظم كتب السلسلة التي أشرنا إليها، وكمثال هنا يمكن الإشارة إلى كتاب «العثمانية آخر الامبراطوريات»، وفيه كشف أورطايلي عن نفسٍ أقرب ما يكون لنفس الباحث الإثنوغرافي من خلال ابتعاده عن الأساطير التاريخية الرسمية (التي عادة ما يقمّشها المؤرخون) لصالح فهم أوسع للاجتماعي واليومي داخل المدن العثمانية، خاصة مدينة إسطنبول العثمانية، من خلال دراسته لأحياء المدينة وطرق العيش داخلها، أو من خلال قراءة شواهد مقابرها الموجودة داخل أحيائها الرئيسية، التي لطالما أثارت حيرة الرحالة والمستشرقين الأوروبيين وحتى العرب إلى أيامنا هذه، كما أنه يكشف لنا من خلال هذا الكتاب عن تاريخ الثقافة والتسلية داخل المدينة، والتحولات الذهنية لدى بعض النخب العثمانية في القرن التاسع عشر.
ففي مقال له تحت عنوان «أحياء إسطنبول ومقابرها» يرى أن الناس كانوا يختارون السكن داخل الأحياء بناء على انتمائهم الاجتماعي وليس وضعهم المادي، فنجد أن أحياء المدينة كانت مقسّمة وفقا لهذه القواعد، إذ لا يمكن أن نعثر على بيوتات لغير المسلمين في حي الفاتح وتشارشمبة، بينما كان يمكن العثور على الطائفة اليهودية في حي بالاط الواقع في الطرف الآخر، أما في فنار فقد كان يعيش عدد كبير من الروم الأرثوذكس.
وأما على مستوى الحي، فقد كان من شروط العيش داخله تمتّع القادم الجديد بسمعة طيبة لأنه سيكون جزءا من الحي، ولأن علاقات الحي كانت تغدو أقرب إلى علاقات القرابة. ونتيجة لطبيعة البناء والبيوت العثمانية (الخشبية) فلا يمكن أن يكون جارك سوى حافظ أسرارك، ولهذا السبب كان سكان إسطنبول، لا يتحدثون بصوت مرتفع في منازلهم، حتى أنهم يخوضون شجارهم بشكل معقول.
وقد كان الجامع أحد أهم مكوناته، فيه تقام الصلوات الخمس كل يوم، بينما تقام صلاة الجمعة في الجوامع الكبرى، إضافة إلى ذلك شكّل المقهى المكون الأساسي الثاني للحياة اليومية، إذ يتحدث الرجل بكل أمور الحي في المقهى. أما النساء فيبقين معا طوال اليوم ويقمن بكثير من الأعمال معا.
من جهة أخرى شكّل موقع المقابر داخل الأحياء أمرا لافتا للاهتمام، ما دفع عددا من المؤرخين والرحالة الأوروبيين إلى وصف المدينة بـ»مدينة موتى». وهو وصف يرفضه أورطايلي، لأننا بذلك لا نميز بين مفهوم «الموت» الذي عاشه بعض الرحالة في القرن التاسع عشر وإلى أيامنا هذه، وبين فكرة الموت لدى العثمانيين وبعض الامبراطوريات الأخرى.
ففي السابق كانت القناعة أن الموت حق لا يمكن تأخيره والهرب منه. ومن هنا كانت شواهد القبور عملا فنيا مدهشا، إذ توضع على القبور لفة أو شارة تدل على طبقة أو مهنة المتوفى، كما أن الفاتحة كانت تكتب بخط جميل يُنسي برودة الموت على شاهدة رخامية بسيطة توضع على القبر. كما تميّزت بعض شواهد القبور بعكسها لحالة من التاريخ الاجتماعي والفكاهي للمدينة، ففي مقبرة أيوب تم العثور على عدد من الشواهد كتب عليها: «فلان أفندي المتوفى نتيجة نق النساء».. وكان الحمّام يكمل المشهد العام للحي. ففي تلك الفترة كان الماء يعد مادة نادرة في المدن الكلاسيكية، وهذا الأمر لم يكن ناجما – وفقا لأورطايلي- عن شحه، بل لكون بناء شبكات توزيع الماء في المدن القديمة كان أمرا مكلفا جدا.
لهذا السبب لم يصل الماء في إسطنبول العثمانية إلى البيوت، كما أن ندرة الماء وعدم وجود ضخ ماء، جعل الحريق في مناسبات عديدة يلتهم بيوتات إسطنبول الخشبية بلحظة، ولهذا السبب كان تحويل البيوت الخشبية إلى حجرية أولوية رجال التنظيمات. فبدأ رشيد باشا بالتخطيط لهذا الأمر منذ كان في لندن. وقد كان أهل الحي ينقلون الماء إلى البيوت من السبيل. ومن هذا المنطلق كانت الحمّامات العامة مؤشرا على حياة اجتماعية مختلفة، إذ كانت تؤمن نظافة الناس في المدن لأنها تعد مالا عاما. وقد كان ثمة حمام تقريبا في كل حي من أحياء إسطنبول.
وكانت ساعات الحمام هي ساعات لهو وأكل وشرب. ومع دخول الماء إلى البيوت تراجعت مكانة الحمام التركي وبدأ يُمحى من تاريخنا. ولهذا السبب هُجِرت الحمامات تماما. وفي السياق ذاته المتعلق بالحياة داخل المدينة، يشير أورطايلي في مقالة أخرى بعنوان «الأخويات والحرف» إلى أن البعض في سياق ولعه ببعض الظواهر الاجتماعية التي ولدت الحداثة الأوروبية، أخذ يسعى إلى قراءة بعض الأحداث التي شهدتها المدينة العثمانية من خلال منظار الحداثة الأوروبية، وكمثال عن هذا الأمر يشير إلى القراءة والإسقاطات الخاطئة لتاريخ الأخويات (الاتحادات الحرفية) داخل المدينة العثمانية. فوفقا لنظرية التجمعات المهنية، فإن بروز هذه التنظيمات في المدينة الأوروبية ساهم في نشوء الديمقراطية، وبناء على ذلك أخذت بعض الأوساط التركية في القرن العشرين تبحث عن هذا النوع لتقول إن لدينا بذور النموذج الديمقراطي السائد حاليا في الغرب. في حين يرى أورطايلي أن تنظيمات الأخوية أو (الفتوات) (وفقا لتعبير السهروردي الذي يعتمد عليه أورطايلي في تعريفه للأخويات) لم تشهدها مدن الدولة العثمانية، بل هي حالة أقدم تعود إلى فترات الفوضى التي شهدتها المدن الإسلامية، والتي استطاع من خلالها أصحاب المدن الدفاع عنها وإدارتها لفترات معينة، وعلى سبيل المثال كان للفتوات دور أساسي في تحرير أنقرة من احتلال تيمور، في حين أنه مع قدوم العثمانيين غاب البعد العسكري لهذه الاتحادات، لأن العثمانيين رفضوا فكرة وجود توزيع في السلطات.
وفي جانب آخر، يتعلق بتاريخ الذهنيات والتعليم داخل المدينة، يتساءل أورطايلي في مقالة بعنوان «المطبعة والمكتبات عند العثمانيين» عن الأسباب التي أخّرت دخول المطبعة إلى مدينة إسطنبول العثمانية. وفي هذا السياق يعرض بعض الإجابات التي ذُكِرت في هذا الجانب، مثل ربط عدم دخول المطبعة بتعصّب رجال الدين، أو أن هناك مجموعة كانت تعيش على الكتابة والخط ولا ترغب بدخول المطبعة، أو أن هناك مجموعة رفضت استخدام المطبعة بطباعة النصوص الدينية، خاصة القرآن الكريم. ورغم أن أورطايلي لا يشكك بهذه النتائج، إلا نه يشن بعض الغارات الأنثروبولوجية – وفق تعبير كلود ليفي شتراوس- على هذه التفسيرات لكونها بقيت منحازة من ناحية لفكرة الكتابي ودوره في التعلم، وهي فكرة حديثة حقيقة، إذ أن المجتمعات القديمة (ومنها المجتمع العثماني) كان التعلم فيها يتم عبر الشفوي المعتمد على الحفظ، وهو الأمر الذي حال دون انتشار الكتاب على نطاق واسع وجعله غير ضروري في الشرق.
أما الناحية الثانية فهي تتعلق بثقافة قراءة الكتاب التي هي ثقافة انزواء بمعنى من المعاني، ومن هنا فإن تأخر المطابع بالدخول إلى إسطنبول إنما يعود لسبب آخر- وفقا لأورطايلي- يتعلق بعدم انزواء الناس في البيوت واكتسابهم عادة القراءة، لأن الحفظ الشفوي كانت له المكانة الأساسية في التعلم، ولذلك ظلوا يفضلون الاستماع إلى كتب التاريخ والشعر الكلاسيكي من قبل أحد القراء، والاعتماد على الذاكرة للنقل في ما بينهم. وهي عادة بقيت مستمرة إلى عهود قريبة من تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، الأمر الذي تعكسه بعض عبارات السخرية التي تطلقها بعض الشرائح الاجتماعية حتى فترات قريبة على من يقرأون الكتب مثل عبارة: «يغلق على نفسه ويقرأ»، أو من خلال ذكر عبارة «كثرة القراءة ليست مفيدة».
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو
الأخ محمد تركي الربيعو…أمتعت القراء بمشاهد تراثية تفوق لذّة مسلسل ( حريم السلطان ).لقد أخذتنا إلى روح التاريخ كما قالها ( هيغل )…
إنها رحلة الزمن المقلوب للزمن الصحيح الجميل السليم من الجراح والندوب.خصوصاً ربطك للموضوع بمؤلف كتاب الخلافة العثمانية ؛ الذائع
الصيت الأستاذ أورطايلي.ونستزيدك أنْ تقدّم لنا تترى مترعة من هذا الفنّ الأدبيّ الذي قلما نجد مهتماً به ؛ وهوحجرالأساس في نظام حياتنا هنا
في الشرق.فالفعل التاريخي لايتهافت بمجرد دخوله في قفص الماضي ؛ بل يتمدد ليطول الأصول والفروع كشجرة الكروم بعناقيدها الدوالي.إنه
التاريخ جوهرالزمن ؛ والزمن جوهرالسلطان على العالمين في الحاضروالمستقبل.شكراً…ولكن لا شكرعلى واجب.