كان عام 1917 حرجا جدا في العالم أجمع، فالحرب العالمية الأولى بين ألمانيا والنمسا من جهة وبريطانيا وفرنسا وروسيا من جهة أخرى، تحرق الأخضر واليابس في أوروبا. وأصبح مصير أمم كبرى على المحك، مثل الإمبراطورية العثمانية التي بدأت تعد أيامها الأخيرة، وروسيا التي أخذت جيوشها تتحطم أمام الجيوش الألمانية، والأزمات الداخلية تعصف بها، وألمانيا نفسها التي أدركت أنها غير قادرة على مواجهة مجموعة من الدول العظمى في الوقت نفسه، ولذلك كان عليها إزالة إحداها بأسرع وقت ممكن. وكانت روسيا الهدف الأسهل، فقرر الألمان التعاون مع كل أعداء الدولة الروسية، ومنهم المتطرفين من الشيوعيين الروس.
الشيوعيون الروس
تأسس الحزب الشيوعي الروسي عام 1897، ولكنه انقسم عام 1903 نتيجة لجهود رجل يدعى لينين، حيث انقسم الحزب إلى البلاشفة (أي الأغلبية باللغة الروسية) والمناشفة (أي الأقلية). وكانت هذه التسميات من اختيار لينين نفسه، على الرغم من عدم دقتها، فقد كان المناشفة في الحقيقة الأكثر عددا. ولكن الفرق بين الجانبين كان أيضا أكثر من مجرد أسماء، فقد آمن المناشفة بضرورة الوصول إلى السلطة من خلال النظام والقانون المتبع من قبل الدولة الروسية. أما البلاشفة فقد آمنوا بالإطاحة بكل من يقف في طريقهم، خاصة الدولة بكل الوسائل العنيفة من أجل الاستيلاء على السلطة، ولتذهب القوانين والأعراف إلى الجحيم. وكانت الدولة الروسية قد ضربت الجانبين بشدة فتقلصا وهرب قادتهم من روسيا.
أما لينين فقد فر إلى مدينة زيوريخ السويسرية مع زوجته لينضم إلى تجمع الشيوعيين الروس هناك يستمتعون بالحياة فيها، فقد كانت سويسرا على الحياد في هذا الصراع العالمي. وانعزل لينين عن سير الأحداث في روسيا، وانقطعت وسائل الاتصال بها بالنسبة له، وأصبح مصدر معلوماته الوحيد حول ما يحدث هناك هو الصحف السويسرية. و لم يكن لينين ذلك الشخص الذي يدعو للتآخي والوحدة والسلام العالمي، بل كان يدعو إلى القضاء على كل من يخالفه في الرأي، ويشمل هذا بقية الشيوعيين واليساريين، وطالب أن يقوم الجنود بقتل ضباطهم، وأن يتم القضاء على الدولة الروسية وإلغاء الشرطة والجيش وجميع مؤسسات الدولة، وتسليح المواطنين وبدء حرب أهلية في كل مكان. وقد كانت أفكاره تنعكس على شخصيته، حيث امتلك موهبة غريبة لمهاجمة كل من حوله بكلام جارح. ولكنه كان ملما بشكل ملحوظ بالكثير من المواضيع الثقافية ومؤلفا غزيرا في مجال الفكر الشيوعي، كما أنه أتقن الألمانية والإنكليزية والفرنسية.
و في روسيا أصبح البلاشفة في الحقيقة مجموعة صغيرة عديمة التأثير، وقد تدهورت أوضاعهم إلى درجة أن الكثيرين من قادتهم المحليين أصبحوا عملاء لدى قوى الأمن الروسية. ومع ذلك فإن الموقف كان يزداد سوءا نظرا لفقدان الدولة لسلطتها واحترام المواطنين لها، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية إلى درجة خطيرة، والتآكل الواضح في قوة أجهزة الأمن وبقية مؤسسات الدولة. وكانت إشاعات كثيرة تنتشر كالنار بين المواطنين حول وجود نفوذ ألماني في الدولة لتخريب روسيا، وأخذ البعض يدعون إلى قتل القيصر وزوجته الألمانية والطبقة السياسية. وفي هذه الأثناء كانت ألمانيا تحاول جاهدة إقناع روسيا بإيقاف الحرب من جهتها. وكانت هذه الاتصالات تتم من خلال السويد والدنمارك، ولكن بدون جدوى، لإصرار روسيا على الاستمرار في الحرب مهما حدث.
من جهة أخرى أخذ الألمان في الاتصال بكل من عارض النظام في روسيا وكانوا كرماء في وعودهم المالية لمن يساعدهم، حيث وعدوا بالملايين التي كانت مبلغا مهولا آنذاك، ولكننا لسنا متأكدين كم أعطوا في الحقيقة. وكان من بين من اتصلوا بهم الأقليات في روسيا، مثل البولنديين والأوكرانيين والفنلنديين (كانت فنلندا جزءا من روسيا آنذاك وكانت نقطة الحدود الفنلندية ـ السويدية المعبر الوحيد لروسيا مع العالم الخارجي) من أجل إثارة القلاقل داخل روسيا.
الاتصال الأول
قام رجل روسي يدعى بارفوس بالاتصال بالسفارة الألمانية في تركيا، عارضا عليهم خطة للقضاء على النظام القيصري في روسيا. وبارفوس هذا شخصية غريبة جدا، فهو بلشفي وصديق للينين، وكان ذا شخصية مرحة وجريئا واجتماعيا جدا وعاشقا للنساء والكحول، ولكنه كان أيضا محتالا معروفا، حيث احتال على كل من تعامل معه، ومنهم مكسيم غوركي، الكاتب الروسي الشهير. واستطاع بارفوس إقناع الألمان بإعطائه مبلغ مليوني مارك ألماني (وهو مبلغ هائل في تلك الأيام) كي يقوم باضطرابات وثورة في روسيا.
المخابرات العالمية
كانت أجهزة المخابرات العديدة في أوج نشاطها في أوروبا، فالحرب مستعرة ومصير الأمم أصبح في خطر. وكانت المخابرات البريطانية تنشط في روسيا بشكل كبير، ويرجح المؤرخون قيامها باغتيال أحد أهم الشخصيات المثيرة للجدل آنذاك في روسيا، ألا وهو «راسبوتين»، الذي كان ضد الحرب منذ اللحظة الأولى، بعد أن عذبوه لعدة ساعات لانتزاع أي معلومات من الممكن أن تكون لديه حول النفوذ الألماني في روسيا. وأصبح مسؤول المخابرات البريطانية في روسيا في ما بعد رئيس المخابرات البريطانية. وكانت سويسرا مركز المقر الأوروبي للمخابرات البريطانية. ولم تكن المخابرات الأمريكية غائبة عن مسرح الأحداث، وكان أحد موظفي المخابرات في السفارة الأمريكية شابا يدعى آلن دالاس، الذي أصبح في ما بعد أشهر رئيس لوكالة المخابرات المركزية (CIA). وقد نجحت أجهزة المخابرات من طرفي النزاع في اختراق التنظيمات اليسارية العديدة والمنتشرة في أوروبا وسويسرا.
الثورة الروسية
أخذت الاضطرابات في العاصمة الروسية تزداد بشكل مطرد في شهر مارس/آذار عام 1917 وانضم إليها جنود حامية المدينة، ما أدى إلى تنحي القيصر وتأسيس الحكومة المؤقتة ومجلس السوفييت في الوقت نفسه للسيطرة على البلاد. ولكن الحكومة الجديدة تكونت من مجموعة من الشخصيات التي لم تعرف كيف أن تمسك بزمام الأمور وكان أغلبهم، إن لم يكن جميعهم، أعضاء في الجمعية الماسونية. وعلى الرغم من الرغبة الجامحة لدى الشعب الروسي لإيقاف الحرب، فقد قررت الحكومة الجديدة الاستمرار بها، وشهدت العاصمة مظاهرات ذات تمويل وتنظيم مشبوه تنادي بالاستمرار في الحرب. وأخذ الانضباط في البلاد يضعف، وبدأ الجنود يتركون الجبهة بأعداد ضخمة والعودة إلى منازلهم، حتى وصل عدد هؤلاء إلى مليون ونصف المليون خلال أسبوعين، وتم طرد (وأحيانا قتل) 75٪ من الضباط. أما في العاصمة الروسية فقد أخذت الأحزاب التي كانت محظورة في البروز، ومنهم البلاشفة الذين استغلوا الفوضى، فاقتحموا إحدى صحف القطاع الخاص وحولوها عنوة إلى صحيفتهم الخاصة تحت اسم «برافدا». وعندما أرادوا مقرا جديدا لهم استولوا بالقوة على قصر فخم كانت تملكه أشهر راقصة باليه في روسيا، ويقع أمام السفارة البريطانية.
وأخذ الكثيرون ينضمون إلى البلاشفة حتى بلغ عدد البلاشفة في أبريل/نيسان 1917 ثمانين ألفا. وكان جل هؤلاء الأعضاء الجدد شبابا متطرفين ويؤمنون بالعنف والتدمير.
وفي الخامس عشر من مارس عام 1917 أجبر قيصر روسيا على التنحي وسيطر على الحكم مجلس السوفييت والحكومة المؤقتة، لتبدأ حالة من الفوضى في ظروف غريبة حتى سيطر البلاشفة الشيوعيون على الدولة بانقلاب في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917. وبدأ عصر الظلام.
مصير العائلة المالكة الروسية
كان القيصر الروسي عند حدوث الانقلاب هو نيكولاس الثاني (1868 ـ 1918). وكان قد أجبر على التنازل عن العرش في الخامس عشر من مايو/أيار 1918، واعتقل من قبل الحكومة الانتقالية التي حكمت روسيا قبل استيلاء البلاشفة على السلطة. وفي البداية احتجز القيصر في قصر أليكساندر بالقرب من مدينة سانت بيترسبورغ، ولكن عندما سيطر البلاشفة على الحكم حصل تحول جذري في أحوال العائلة المالكة، وقام البلاشفة الشيوعيون بقتل ثمانية عشر من أولاد أعمام العائلة المالكة، وكان عددهم عام 1917 خمسة وستين، وقاموا بقتل شقيق القيصر نفسه. أما بالنسبة لعائلة القيصر نفسه، التي تكونت من القيصر نفسه وزوجته وبناته الأربع وابنه العليل، فقد كان القيصر يأمل في أن يذهب إلى بريطانيا، التي كان ملكها ابن خالته، ولكن بريطانيا لم تحاول إنقاذه ورفضت استقباله. وكانت عائلة القيصر بالنسبة للبلاشفة مصدر مشاكل، فهي تمثل العهد القديم وهذا يعني أن بقاءها يبقي حلم عودة النظام السابق. وفي الوقت نفسه كان البلاشفة في حرب داخلية مع قوات روسية معادية وحرب خارجية في الوقت نفسه، حيث اخترقت القوات الألمانية الدفاعات الروسية.
نُقلت عائلة القيصر في البداية إلى أحد القصور، ثم نقلت من مكان إلى آخر حتى أُرسلت إلى مدينة يكاترينبورغ التي كانت تعد أكثر المدن تطرفا للشيوعية وعداء للقيصر. ووضعت العائلة في منزل يدعى منزل أيباتيف نسبة إلى اسم المالك الأصلي قبل أن يصادره البلاشفة. وعامل الحرس العائلة جيدا، إلا أن الأمور ساءت قليلا بعد تغيير المسؤول الحكومي عن العائلة. وكانت العائلة تقضي وقتها في العمل في تنظيف المنزل والعناية بالحديقة، وامتازت بالعلاقة القوية بين أفرادها. وآخر من رأى العائلة من خارج نطاق الحرس كانوا أربع نساء محليات جُلبن لتنظيف المنزل. وأسهبت النسوة في المديح في وصفهن للعائلة وبناتها لأدب الجميع ومشاركة البنات في تنظيف المنزل بشكل جدي. وخص النسوة في الذكر ابن القيصر العليل ذا الأربعة عشر عاما، وذكرن أن المسؤول عن الحراسة أظهر تعاطفا ملحوظا تجاه الصبي وسأل عن صحته. ولم يكن القيصر يعرف أن الأمر بإعدام الجميع قد صدر من لينين في موسكو، وإن ذلك التعاطف من قبل المسؤول لم يكن سوى تمثيل متقن. وفي ليلة السادس عشر من يوليو/تموز عام 1918 أيقظ الحرس العائلة في الساعة الواحدة والنصف وأمروهم بالذهاب إلى القبو وعند دخولهم المكان الذي لم يحو سوى كرسيين جلس عليهما القيصر وزوجته. ودخل المسؤول ومعه فريق الإعدام وقرأ أمر الإعدام على العائلة التي كانت قد صعقت بهذا التطور للأحداث. وما أن فرغ المسؤول من قراءة الأمر حتى بدأ إطلاق النار وقتل القيصر فورا، أما زوجته فقد بقيت على قيد الحياة، فأنهيت حياتها برصاصة في الرأس. ولكن البنات لم يصبن بأذى، وكان السبب أنهن ارتدين جميع مجوهرات العائلة تحت ثيابهن، فحمتهم هذه المجوهرات من الرصاص، ما اثار غضب الحرس وهجموا عليهن ومزقوا أجسادهن بالحراب والضرب المبرح. ورميت الجثث في بئر غير عميق وحاول الحرس تفجيره بقنابل يدوية، إلا أن البئر لم ينهر، فأخرجت الجثث ووضعت في شاحنة لنقلها إلى مكان آخر. ورميت جثة الابن وأكبر البنات في غابة، ثم أحرقت جثث الآخرين في مكان قريب ووضعت البقايا في الحامض. وبهذ الشكل انتهت العائلة التي حكمت روسيا منذ ثلاثة قرون وجعلتها دولة عظمى.
ولكن لم تكن هذه نهاية القصة، حيث أدعى البعض أنهن بنات القيصر أو ابنه وكادت إحداهن أن تنجح في ادعائها أنها كانت «أنستاسيا» أبنة القيصر الصغرى.
٭ كاتب من العراق
زيد خلدون جميل