هو فارق «غير طفيف» بين إبادة الأرمن عثمانياً، في سياق الحرب العالمية الأولى، وبين إبادة يهود أوروبا، ألمانياً، في سياق الحرب العالمية الثانية.
في الحالة الأولى، كان يمكن – ولو لقلّة قليلة أن تنكر دينها، وتعتنق الإسلام، فتحفظ حقّها في الحياة، على هامش تهلكة مليون ونصف المليون من شعبها.
في الحالة الثانية، امتدت الإبادة النازية، لتشمل ليس فقط اليهود الملتزمين بدينهم أو بهويتهم ذات المنشأ الديني، بل المسيحيين المتحدّرين من أصول يهودية.
في الحالة الأولى، وبعد مئة عام على الترحيل والتنكيل المنهجيين، لا مناص من التوقف عند مفارقة أنه، وسط كل هذا البلاء، فتح «باب النجاة» لقلّة، وقبلته قلّة القلّة، وان كانوا بالآلاف في نهاية الأمر. كان يمكنك أن تنجو من الإبادة بإنكار دين قومك. مع أن الجاني لم يكن يتقصّد التنكيل بكل من ليس على دينه، أو بالمسيحيين جميعاً، وبنفس القدر، إنما بالأرمن (والسريان والأشوريين) على وجه التحديد. ومع أن الجاني، حكومة الاتحاد والترقي، وبشكل مباشر أكثر وزير الداخلية محمد طلعت باشا، كان يتبنى أيديولوجيا متشرّبة للتأثيرات الغرباوية الوضعية والعلموية في ذلك الزمان، وبشطحات لادينية أحياناً.
طبعاً، كانت السلطنة العثمانية، رسمياً وشعبياً، في «حالة جهاد»، لكنه كان جهاداً ضد الروس والانكليز والفرنسيين، انما إلى جانب، وتحت قيادة، الألمان والنمساويين. ولا يمكن اخراج النكبة التي حلّت بالأرمن من هذا السياق، في وقت كثر فيه المستشارون العسكريون الألمان في أرجاء السلطنة، وكانوا متحمّسين للتنكيل بالأرمن، حلفاء الروس، أكثر من الأتراك أنفسهم.
ليست مجرّد حركة قومية قتلت أبناء قومية أخرى إذاً: كان هناك يافطة «جهادية» دينية أيضاً، وكان هناك فتحة نجاة «دينية» كذلك الأمر، وفي الوقت نفسه، تمّ كل ذلك، والسلطنة، مرتبطة تبعياً، بامبراطوريتين «مسيحيتين»: آل هوهنزوليرن في برلين، وآل هابسبورغ في فيينا. أكثر من ذلك: أدّت الإبادة إلى الاضرار بالسباق مع الوقت لاستكمال خط حديد برلين – بغداد، لأنها توسّعت للتنكيل بعمال وفنيين أرمن أساسيين في هذا المشروع، ومع ذلك كانت العاصمتان الأوروبيتان تغطيان تماماً ما تقوم به «التشكيلات المخصوصة»، وما تجندّه من فرق عسكرية، ومساجين محرّرين، وقرويين ترك، وقبائل تركمانية وكردية وعربية، لتوسيع عملية الإبادة.
في المقابل، ألمانيا اليوم هي الدولة الوحيدة التي تعترف بمسؤولية لها عمّا حصل للأرمن قبل مئة عام. احتكارها للإبادة في الحالة الثانية (ابادة اليهود التي تحل السنة الذكرى السبعين لانتهائها) يفتح لها المجال للاعتراف بمسؤولية تواطؤ حكومتها مع عملية الإبادة في الحالة الأولى (ابادة الأرمن). أما إنكار حصول الإبادة الأرمنية فلا يقتصر فقط على تركيا أو أذربيجان أو البلدان العربية والإسلامية. هناك أيضاً تراث اسرائيلي انكاري، مرة من موقع الدفاع عن فرادة المحرقة، ومرة من موقع العلاقات التحالفية، مع تركيا في السابق، ومع اذربيجان اليوم. في المقلب الآخر، هناك تراث من «اللاسامية الأرمنية»، ينسج على رصد مسؤولية أعضاء «الاتحاد والترقي» من أصول يهودية بلقانية (الدونمة) في نكبة الأرمن.
ولئن غلبت، في العمل البحثي، النظرة «الوظيفية» فيما عنى المحرقة النازية على النظرة «القصدية» الصرف، فلم تعد ثمة وجاهة لأي دراسة تتناول المحرقة النازية بمعزل عن سياق الحرب العالمية الثانية، لا يزال تناول الإبادة الأرمنية، في المقابل، يجنح إلى الانفصال بموضوعه عن سياق الحرب التي كانت تخوضها السلطنة.
قد لا يكون الكتاب الأخير للمؤرخ يوجين روغان «سقوط العثمانيين – الحرب الكبرى في الشرق الأوسط» (2015) استثنائياً من جهة المعلومات التي يقدّمها عن الكارثة التي حلّت بأرمن الأناضول وكيليكية، لكنه مفيد جدّاً فيما يتعلّق بارجاع الابادة إلى سياقها الحربي.
ففي 1915، كان العثمانيون يواجهون احتمال ثلاثة اجتياحات متزامنة. الجيوش الهندية البريطانية المتقدمة في العراق، والروس المتقدمون في القفقاس بعد تبديد انور باشا لجنوده في حملة سريكميش الفاشلة، والبريطانيون والفرنسيون في الدردنيل، بحيث ساد الهلع في الأستانة بأنها على وشك السقوط في آذار 1915.
ليس ثمة أدنى شك عند روغان بأن أغلب الأرمن وقتذاك كانوا متحمّسين لانتصار الروس والحلفاء، ويتوقعون حدوثه بسرعة، كما يذكرنا بأن الأرمن كانوا قبل الابادة قد أصبحوا أقلية في مختلف ولايات السلطنة، بما فيها تلك التي تعرف «بالولايات الأرمنية». فحتى في مدينة فان التي كانت مركز التمرّد الأرمني في شرق الأناضول كان الأرمن يشكلّون أقلية السكّان.
في المقابل، يظهر روغان عناصر التقبل الشعبي، المتعدد اثنياً، لنكبة الارمن، ان لم يكن الحماسة لها والمشاركة بها. كان ثمة نقمة متعاظمة على الأرمن، ليس فقط للمواقف السياسية البادية التي كانوا يظهرونها، بل أيضاً لكونهم أقل تضرّراً من ويلات الشهور الأولى للحرب الكبرى، سواء الخسائر البشرية الهائلة للجيش العثماني في القفقاس، أو وباء التيفوس الذي كانت خارطة انتقاله هي خارطة انتقال الجنود وتوقفهم في المدن.
من هنا، جاءت ابادة الأرمن بخلاف حالة ابادة اليهود التي كان لها جهازها المعزول نسبياً عن الشعب الألماني – ففي يوميات جوزيف غوبلز ما يظهر قلق النازيين من أن ينتقل تنكيل اليهود في الشوارع والساحات من ممارسة رائجة شرق أوروبا إلى ممارسة تشوّه التمدّن البرليني، وبالتالي الرغبة في أن يكون المسلخ بعيداً عن الناس «المتحضّرين».
في الوقت نفسه، كان القرار الحكومي بترحيل الأرمن من الولايات القريبة من الجبهة رسمياً، والقرار بترحيلهم من الولايات البعيدة والتنكيل بهم، وافراد عصابات للقتل والنهب والسبي، وجرّهم باتجاه الموت في الصحاري، في طريقهم إلى دير الزور وغيرها، قراراً شفوياً، وهذه الشفاهة سيعتمد عليها النازيون بشكل أوسع في تنظيم المحرقة.
ولمّا كانت نكبة الأرمن غير معزولة عن النسيج الأهلي العثماني، ترتبت مشاركة قبائل كردية، وكذلك عربية، في عملية زيادة عذابات الشعب الأرمني، ولو أن قبائل كردية وعربية أخرى تدخلت على العكس من ذلك لانقاذ الجياع واليتامى من مسيرة الموت. في الوقت نفسه تختلف الابادة كماً ونوعاً عن حملات التنكيل السابقة التي كانت تقوم بها «الخيالة الحميدية» المشكلة من الأكراد والتركمان ضد المناطق الأرمنية العاصية في أواخر القرن التاسع عشر. في نهاية الأمر، وخصوصاً بعد تمرّد فان، ودخول الروس إلى فان ردحاً من الوقت، كان قيام كيان أرمني في الأناضول سيكون على حساب الأكراد، مع أن الأرمن كانوا فقدوا الأكثرية الديموغرافية في تلك المناطق منذ فترة غير قليلة قبل الابادة.
ميزة اعادة الابادة إلى سياق الحرب الكبرى، كما يفعل روغان في كتاب مخصص للحرب الكبرى أساساً، انها تبعدنا عن التبسيط الأخلاقويّ، أو عن حصر الابادة بثنائية «أتراك وأرمن». تذكير روغان بالانتظارات الأرمنية المستعجلة لانهيار السلطنة وهزيمة الترك وقيام كيان على حساب الأكراد هو مدعاة للاعتبار، لأنها مأساة تكرّرت مع أقوام كثيرة في العالم. وملاحظته في نهاية فصله عن الأرمن، بأنّ ما مدّد بعمر السلطنة لسنوات اضافية بعد ان كان ينتظر سقوطها عام 1915 لم يكن ابادة الارمن والاشوريين «المجانية» عسكرياً، وانما شجاعة الجنود الوطنية في ما يسمّيه، بكلمات ملحمية، «الانتصار العثماني في غاليبولي». هي اذاً مئويتان لا واحدة: مأساة نتحمّل مسؤوليتها، بتدريج وتفاوت، كعثمانيين من كرد وعرب، وليس فقط الترك، وانتصار عسكريّ في غاليبولي هو لحظة ثمينة في تاريخ التصدّي للمستعمرين الأوروبيين.
وكما هو «التركي» مفهوم له تاريخ، كذلك «الأرمني». فقد لعبت الابادة دوراً محورياً في صقل هذا المفهوم، وربط طابعه القومي بالديني. لا يمنع مع ذلك، انه، اذا كانت الأقلية الارمنية في تركيا قد تقلصت إلى نحو سبعين الفا اليوم بسبب الابادة، بأن نتنبه إلى ظاهرة «الكريبتو أرمن» في المجتمع التركي، أي الأرمن الذين حملوا على الإسلام والتترّك قبل أو بعد الابادة، وهؤلاء يتفاوت تقديرهم بتفاوت المنظار، من خمسين الف إلى.. خمسة ملايين. هذا دون اغفال قوم «همشين» وهذه اثنية أرمنية في الأساس تعتنق بغالبيتها الإسلام السني، في حين ينحدر قسم كبير من أكراد منطقة درسيم من أصول أرمنية، ويتبعون الطريقة العلوية، وقد تكون مجازر مصطفى كمال بحقهم في الثلاثينيات على صلة بأصلهم «المريب» هذا، أو بكونهم المنطقة التي احتضنت هاربين أرمن من المجازر، في وقت كانت تشارك قبائل أخرى، كردية وعربية، بـ»جهاد طلعت وأنور».. وباقي الشلّة.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
المشكلة اقتصادية بحتة يا أستاذ وسام
فالاعتراف يؤدي الى التعويضات الباهضة
وتعويضات اليهود عن ابادتهم بألمانيا مثال حي
أنا كمسلم أدين كل المجازر والابادات ولكل البشر ومنهم الأرمن
ولا حول ولا قوة الا بالله
عشتَ يا أخ داوود كلامك منطقي وأنا أحييك، العبرة ليست هدفها الإساءة إنما الإعتراف بها يطوي صفحة من التاريخ كي لا يتكرروأضم صوتي إليك كمسيحي أستنكر أية إساءة لأي كائن بشري فالتعاليم التي نؤمن بها كنا مسلمين أو مسيحيين ومن أي ديانات أخرى لأن الله أحب البشر جميعا . كلمات معدوة قُلتها أخي كافية ومعبرة وأنا أشكرك عليها مرة أُخرى.
حياك الله يا عزيزي Sem USA وحيا الله الجميع
وصدقت بكل كلامك يا زميل
وشكرا على اطرائك
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال تثقيفي ممتاز، والف شكر لوسام على هذا السرد التاريخي المفيد جداً.
عدد قليل من الكتاب العرب، قادورن على كتابة هادئة وتاريخية من هذا الشكل.
دارا عبدالله