ينتمي الإعلام الرقمي والمواقع الاجتماعية إلى منجزات الثورة الرقمية التي تُعتبر أهم تحول يجتازه الإنسان منذ فترة ما قبل التاريخ. يتعلق الأمر بنسق جديد، تتحكم في رؤيته الفلسفية المعلومة، ويُنتج إدراكا جديدا للمفاهيم. لقد أصبحت المعلومة مادة ومفهوما مُؤثرا في حياة الإنسان، مثل الماء والتراب والهواء والنار.
تحضر المعلومة باعتبارها حمَالة مفاهيم تهدف إلى إحداث معنى، ومعرفة وتعلم، وإخبار، وتتحقق بأشكال متعددة ومتنوعة. قد تأتي على شكل مفردة أو جملة، أو ترد ملفوظا أو نصا، كما قد تتشكل صورة أو صوتا، أو تظهر رقما إحصائيا أو رسما بيانيا. وكلما تطورت الوسائط والتطبيقات التكنولوجية، اتخذت المعلومة تمظهرات جديدة، ومن ثمة دلالات مختلفة حسب سياقات الاستخدام. لا تنتهي دلالة المعلومة بمجرد استخدامها، إنما سيولة الاستخدام تضمن استمراريتها، وتُحولها في الوقت ذاته إلى هدف ربحي، فينعكس ذلك على وظيفة المعلومة في توصيل حقيقةٍ أو تأمين خبرٍ. يمكن الحديث هنا عن تجاوز مفهوم الاستهلاك الذي ارتبط بالموارد المادية، إلى مفهوم الاستخدام اللامنتهي.
ننتقل إذن، مع الوضع التكنولوجي للمعلومة من النسق الأفقي الذي يجعل المعلومة تنتهي عند استهلاكها، دون الحديث عن استمرار تأثيرها في الوعي الاستهلاكي، إلى نسق ترابطي يجعلها تعيش التحول السريع، وفق سياقات وأهداف استخدامها. وهنا، تظهر الخطورة في صعوبة التحقق من موضوعية المعلومة.
وإذا كان الإعلام الرقمي هو إعلام بديل ـ أو يكاد – عن الإعلام التقليدي، يعتمد مجموعة من الوسائط التي تسمح بنشر المحتوى الإعلامي، وتتميز بالتفاعل المُتزامن مع النشر، وتعمل على دمقرطة المعلومة بإنزالها من المؤسسة، وتحويلها إلى فعلٍ اجتماعي، يُعبر بواسطته أفراد المجتمعات عن حاجياتهم ومطالبهم وآلامهم وأحلامهم، فإن طبيعته، وكذا إمكانياته أدت إلى ظهور مفهوم جديد للإعلامي، تمثل أولا في بروز وجه آخر للإعلامي المُتمثل في مُستعمل المواقع الاجتماعية، والتطبيقات التكنولوجية وهو الفرد الاجتماعي – الافتراضي الذي تحول بموجب استعمال الوسائط إلى إعلامي ينشر الخبر. إما بصناعته وتركيبه وإنتاجه، أو باستهلاكه وتعميمه وإعطائه بُعدا آخر، والتأثير في المجتمع باختياراته للمعلومة. وتتشكل سلطة هذا الإعلامي الجديد عبر فعلٍ اقتسام المعلومة، ونشرها على أوسع نطاق في إطار منطق الشبكة المتفاعلة، ومن جهة ثانية، تحول مفهوم الإعلامي المهني، من الإعلامي المُنتج للمعلومة والخبر من أجل تقديم خدمة إعلامية، إلى إعلامي شريك في المادة الإعلامية. وبحضور شركاء بجانبه «إعلاميون اجتماعيون»، يُؤثرون بنشرهم للمعلومة، أو باعتماده أيضا على المنصات التكنولوجية نفسها، بالطريقة نفسها. لقد ارتفعت نسبة اعتماد الإعلاميين المهنيين على المواقع الاجتماعية من 85 في المئة سنة 2012 إلى 94 في المئة سنة 1917. لهذا، فالمعلومة الإعلامية المهنية ستخضع – وفق الاستخدام الإعلامي – إلى مسارات التحول والتبدل، وتنفتح بفعل العمليات التفاعلية المفتوحة على «الإعلاميين الاجتماعيين» على الاحتمالات التي قد تُخرجها من قصديتها الأولى، وتجعلها حاملة لدلالات مختلفة. نعيش إذن، تشكل حالة إعلامية جديدة، عند سوء تدبير الوعي بها، فإنها قد تؤدي إلى فوضى في المعنى والحقيقة. وهناك أمثلة عديدة، عن نشوب خلافات دبلوماسية بين دول بسبب نشر معلومة، واقتسامها والتفاعل معها إلى حد انزياحها عن منطلقها. إنها تكبر وتتسع مثل كرة الثلج.
لقد أدى ظهور الإعلامي التكنولوجي إلى خلق نوع من الفوضى في المعلومة والخبر والحدث، لكون النشر/الاقتسام لا يخضع لقوانين وأخلاقيات مؤسسة، وبالتالي، باتت المعلومة في ملكية مُشتركة غير منتهية، مفتوحة على أصوات جديدة. وعليه، فقد انتقل موقع الإعلامي في المنظومة الإعلامية السابقة من الموقع – المرجع إلى الموقع – الشريك. لم يعد وحده المسؤول عن المعلومة، وإنما أصبح له شركاء في بثها. ما يعطي أهمية للإعلامي «الاجتماعي/ الافتراضي» هو قدرته على التواجد المستمر، والتأثير المباشر، والتحفيز على اقتسام معلومته وخبره. مما يعطي أهمية لحضوره، ويدفع إلى البحث في كيفية التعامل مع هذا الحضور. وإذا كان هذا الوضع يسمح بمنح الفرصة أمام الكل ليعبر ويفضح ويعري أوضاعا، ولنا أمثلة كثيرة في تجارب عربية، جعلت بعض السياسيين يتراجعون عن بعض القرارات، كما تحول خطاب «الإعلامي الاجتماعي» الذي يتحرك خارج نظام المؤسسة، إلى مصدر قلق وخوف بالنسبة لمدبري الشأن العام، مما جعلنا أمام ما يمكن التعبير عنه بشبه «معارضة في الظل» تتابع المشاريع والأفعال والقرارات وتتفاعل معها بإبداء الرأي والمعارضة والفضح واقتراح البديل، فإن ملتقى هذه الشراكة الإعلامية التي تتحقق مع إمكانيات التفاعل المشترك، تتم – في غالب الأحيان – خارج تعاقد أخلاقي وقيمي مسؤول، من أجل الارتقاء بالشراكة باعتبارها خدمة وظيفية يشترك فيها الإعلامي المهني مع مكونات المجتمع، في سبيل تطوير حياة الناس، والرفع من مستوى معيشتهم، وتأمين الاستقرار.
سمح الاستعمال الخدماتي للتكنولوجيا بتدفق المعلومة، وتوسيع قاعدة انتشارها واقتسامها، بدون التحكم في مسار تحولها. لأن مصادرها تعددت خارج منطق المؤسسة، وأصبحت إمكانية مُتاحة أمام الجميع بدون سند تكويني أو قانوني في غالب الأحيان. ينعكس هذا الاستعمال سلبا من جهة على مفهوم المعلومة الإعلامية التي تفقد قيمتها الاعتبارية، ودلالتها المرجعية، ودورها الوظيفي في إيصال الخبر، والتعبير عن الحدث، ومن جهة أخرى قد تتحول المعلومة إلى مصدر للعنف والدمار وتلويث الحقيقة، وتُساهم في ارتباك حياة المجتمعات.
وقد يعود الانزياح الوظيفي للمعلومة في الإعلام التكنولوجي الجديد، إلى شبه غياب ضوابط ثقافية وقانونية، تضبط نشر المعلومة واستقبالها والتفاعل معها. لهذا، تعتبر المقاربة التكوينية ذات البُعد الثقافي والتعليمي من أهم مداخل إنتاج الوعي بالاستخدام التكنولوجي. وعليه، فإن الوضع يتطلب استراتيجيات تدبيرية تبدأ من تطوير المنظومة التعليمية، من خلال إنشاء جيل وفق منطق الشراكة. ونقصد بذلك، وضع سياسة تربوية وتعليمية تتوخى تعليما سوسيو بنائيا، وليس تلقينيا، يجعل الطفل واعيا بموقعه باعتباره شريكا (منهجية الشراكة في إنجاز العمل). إن تشكيل التفكير وفق الموقع الجديد، من شأنه أن يُكوَن إنسانا تفاعليا لموقعه.
ينعكس التركيز على تكوين النشء على مختلف مسارات التكوين التعلمي ويدخل في إطار هذه الإستراتيجية، تدريب النشء على التعامل مع الموضوعات والمواد والأشياء بفعل الإنتاج، وهذا يستلزم إعادة النظر في صياغة الخطابات والأشياء بطريقة غير منتهية.
لقد اعتاد الأفراد شكلا معينا من التواصل يعتمد الطابع المُباشر، ضمن حيز مكاني، والذي يجعل المتواصلين يُحددون خطاب تواصلهم وفق معرفة واقعية، واعتماد معجم ينسجم مع طبيعة العلاقة المباشرة، غير أن الاستعمال التكنولوجي قد جعل الأفراد يتجاوزون المظهر الواقعي للتواصل، وينخرطون في تواصل افتراضي. لقد تغير إذن، مفهوم التواصل مع الثورة الرقمية، واستخدام المنصات التكنولوجية، وانتقل إلى مفهوم جديد وهو التفاعل، كما تغير مكان وزمن التفاعل، وظهر مفهوم جديد في مقابل «الواقعي» وهو «الافتراضي». ولعل من أهم إكراهات التواصل التفاعلي أن هذا الأخير يتم بأسلوب التواصل العادي المباشر، وأكثر من هذا بات يستثمر حرية التحرك في الفضاء الافتراضي من أجل تفاعل ملتبس ينزاح- في غالب الأحيان – عن الوظيفة الخدماتية للتواصل. لهذا، بات من الضروري وضع تكوينات حول «التواصل الإلكتروني» من خلال الوعي بالثقافة التكنولوجية وجهازها المفاهيمي الذي غيَر موقع الإنسان ودوره ومعنى وجوده.
إن التأخر في الوعي بالثقافة التكنولوجية بشكل عام وتحدياتها، ووضع استراتيجيات مواجهة هذه التحديات، قد يُعقد الوضع أكثر، ويُحول التكنولوجيا من وسائط خدماتية تُقدم للأفراد والمجتمعات إمكانات لتطوير نمط الحياة والتفكير، إلى وسائط قد تصبح في بعض الأحيان مقرصنة للأدمغة والعقول. تُعتبر دمقرطة المعلومة مكتسبا تكنولوجيا، لكن سوء تدبير المكتسب إعلاميا وثقافيا وعلميا وقانونيا خطرٌ كبير على الديمقراطية، ومن ثم على استقرار وأمن المجتمعات.
٭ روائية وناقدة مغربية
زهور كرام