حينما تُثار إشكالية علاقة الإعلام بفضاءاته، ضمن ما تخطه مستوياته التفاعلية، من حدود جغرافية، مؤطرة بأبعادها الثقافية والحضارية، فإن سلطة المراكز الغربية، لا تلبث أن تلقي ظلالها الكثيفة على الموضوع، حيث لا مجال للحديث عن خصوصية محلية، سواء على المستوى التقني أو المعرفي، التي لا تحيلنا على مؤسسات إعلامية، بقدر ما تحيلنا على بنايات/دكاكين، تعود ملكيتها لشرذمة مشهورة بمواهبها الاستحواذية على المال العام، أكثر من شهرتها بأي ميزة ثقافية أو جمالية. إنها وبفعل ما تعانيه من إسفاف وضحالة «دكاكين» لا تحظى باهتمام أي جهة كانت، من العامة أو الخاصة، إنه نوع من التجاهل المعبر عن احتجاج ضمني، على سوقية وابتذال ما يُتداول فيها من أحاجٍ وترهات، حيث سيكون التورط في انتقاد أو تحليل أي فقرة من فقراتها، إذلالا فعليا لمفهوم المشاهدة، حيث الغثاثة سيدة المشهد، وحيث الجهل المزمن في أدنى التقنيات الإعلامية الحديثة، التي تنعدم فيها أي رؤية جمالية وفكرية، ليس لها سوى أن تحيلنا مباشرة على ممارسات بدائية، لا حضور فيها لأي هاجس ثقافي، أو معرفي.
هذه القناعة الراسخة والمتجذرة في وعي التلقي العربي، هي ذاتها التي تتيح للإعلام الغربي، فرصة توسيعه لمساحاته الاستقطابية، التي لا يتردد هذا المتلقي في مضاعفة تهافته عليها، لاعتمادها استراتيجية الإيهام بقدرتها الفائقة، على وضعنا في قلب القضايا ذات الصلة الوثيقة بمصائرنا، وباهتماماتنا الجزئية والحميمية، وهي القدرة التي يؤسس عليها كل من الأفراد والجماعات، علاقاتهم بذواتهم وبمحيطهم، على ضوء ما تقدمه لهم الآلة الإعلامية، من معلومات ومعارف وحقائق.
فالعالم هو ما تتم معرفته، عبر ما تفبركه مختلف قنوات الاتصال الحديثة، وليس عبر تحصيله الذاتي. وهي معرفة لا تُختزل في النشرات الإخبارية، بل تشمل أساسا الأشرطة الوثائقية، والوصلات الإشهارية، إلى جانب البرامج ذات الطابع التخييلي، خاصة منها الأشرطة السينمائية، فضلا عن البرامج المتخصصة، في المجال العلمي والثقافي والترفيهي، حيث يمكن القول بتعدد المداخل، التي يمكن اعتمادها لمقاربة هذه الترسانة الجهنمية، التي يتعذر الاستغناء عنها، سواء من زاوية التأطير التقني والجمالي، أو من زاوية الرسائل المبثوثة في تضاعيفها، باعتبارها النافذة التي يمكن الإحاطة من خلالها بمختلف الإشكاليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تتمحور حولها حركية المجتمعات، علما بأن الدينامية الإعلامية تشتغل من خلال تجاوزها الحثيث لمنجزاتها، انسجاما مع السرعة الفائقة التي تسير عليها حركية مجتمعاتها، فبقدر ما يعاني إعلامنا من مراوحة مزمنة في رقعة معلوماتية وتقنية، جد ضيقة، وجد مبتذلة، بقدر ما تتضاعف وثيرة إيقاعهما هناك، ضمن توافر الشروط الملازمة، لتفعيل النشاط الإعلامي، لعل أهمها الحرص على المواكبة الدقيقة والمُقْنعة للأحداث والقضايا الأكثر إثارة، بما يضمن استقطاب أكبر نسبة ممكنة من المتلقين/الزبائن، استنادا إلى منطق إشاعة روح العقلانية والموضوعية، التي من شأنها ترسيخ الشعور بالثقة لدى الشرائح المعنية، كوسيلة ناجعة لتمهيد الطريق إلى مبدأ تقبلها، وتبنيها الأعمى لمضامين ما يتم بثه من رسائل.
بمعنى الإيقاع بها في كمائن الاستسلام التام والسالب، لسحر المعلومة، دون أن تصدر عنها أي ممانعة فكرية، تأملية أو انتقادية، وهو ما يكرس اعتقادها باستحالة استمرارية الحياة، خارج ما تحرص الترسانة الإعلامية على تقديمه، باعتباره واقعا يعلو، ولا يُعلى عليه، بمجموع ما ينطوي عليه من حروب عقدية مبرمجة، وتصفيات عرقية، وكوارث بيئية، ومجاعات، إلى جانب مختلف الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالعالم، والتي غالبا ما تكون الدول الفقيرة، والنامية من أبرز ضحاياها. إنها الكوارث التي سنكون مطالبين بتحملها، كما لو كانت مجرد أحداث عابرة، ينبغي التخلص منها ضمن أخرى، لأن المشهد لا يتحمل الاستمرارية الطويلة، سوى للأحداث الجديرة بالانتقاء، والمنسجمة مع استراتيجية الآلة، فالحدث من هذا المنظور، يستمد أهميته من مرجعيته، وليس من هول ما يمكن أن يحدثه من خسائر في الأرواح والمعمار، ذلك أن الحدث الإرهابي، الذي تم تطويقه بفعل معجزة استخبارية، يعتبر أكثر خطورة وأكثر مأساوية، من فاجعة غرق آلاف المهاجرين في عرض المتوسط، الذي تتم برمجته كحدث عابر، من خلال محدودية الحيز الإعلامي المخصص له، وأيضا من خلال السياق الذي يرد فيه، ضمن برامج أخرى، يُتوخى فيها توافر الشرط الترفيهي المنطوي على جرعة زائدة من المرح المساعد على التلطيف من ضراوة ومن قسوة الحدث/ الكارثة. وهي تقنية تستهدف تشتيت عامل التركيز لدى المتتبع، كي لا يظل منشغلا بعنصر ثابت ما، باعتبار أن العناصر كلما تعددت، وكلما تنوعت مرجعياتها، كانت على درجة معينة من الإثارة، إلا وأدت إلى خلق ارتباك كبير في المواكبة العقلانية، وفي تصنيف القضايا وفق ما تمتلكه من جدية وراهنية، علما بأن منطق تشتيت حالة التركيز، يلجأ إلى استثمار كافة المؤثرات ذات الحمولة الإغوائية، التي يتحدد دورها في تصعيد الإحساس بالمتعة، والإغراء الذي يجهض الإحساس بالكارثة وبالألم.
إن الإعلام الغربي، وبتوجيه من الرؤية الحداثية الأكثر تقدما، يسعى لأن يتحول إلى أب/وصي رحيم، إنه المرشد الذي يتحكم في رسم خريطة الطريق، والسلطة التي تحدد هوية العالم انسجاما مع خصوصيتها هي، وليس انطلاقا من الخصوصية الموضوعية لهذا العالم الذي يتم اختزاله إلى عينات تمثيلية ونماذج قابلة للتعميم، لأن المنظور الكمي في حالة اقتحامه للمشهد، سيؤدي حتما إلى إحباط المنهجية الإعلامية، التي تتعارض آلية اشـــــتغالها مع قانون الكثرة، المنضــــوية على طوفان من النماذج، المتسمة بلانهـــائية تعــــددها، واختلافها، حيث لن يكون بوسع الترسانة الإعلامـــــية، ومهما بلغت من التطور، أن تفتح حوارا مع حالات معزولة، لا حصر لها من التباين والتنوع، شأن أي إله أسطوري. وهو شأنٌ موكولٌ للشبكات الاجتماعية، المؤهلة لإدارة عمليات تواصلية تشمل السموات والأراضي بين مختلف الشرائح والعينات والنماذج، عدا عن أن الإعلام يلح على أن يظل مخلصا لهويته كسلطة معلوماتية معنية بتأطير الجماهير في نماذج، وفي عينات ذات خصوصية مقننة ومحددة سلفا، وهو ما يؤدي إلى تبسيط مسطرة تملكه لهذه الجماهير. وهو التوجه الذي يشحنه بقوة استثنائية، ترفع عنه أي إحراج، في احتمال ارتكابه لأي خطأ تقني أو معرفي في حقها، مادامت مجرد عينات محدودة، أما الملايين البشرية التي تتواجد ضمنها هذه النماذج، فلا تعدو أن تكون أرقاما، لا تأثير لها على التفاعل القائم بينه وبين هذه العينات.
إن استراتيجية هذا التواصل/التفاعل، تقوم على مبدأ انتفائي للنموذج باعتباره الأصل في كل تواصل، ومن المؤكد أن انتقاءه يتم على ضوء قوة الحضور، وقوة التأثير، وقوة الفعالية، أي أن المقياس في الاختيار، هو القابلية الآلية للتفاعل، التي تبديها النماذج المنتقاة، تجاه نماذج معينة من القضايا الاجتماعية، السياسية أو العلمية، التي ينبغي أن تكون على درجة كبيرة من الطراوة والإثارة أيضا، ومن أجل أن تحظى الظواهر بهذا التأثير الكبير، ينبغي أن توظف فيها نماذج، لها سلطتها الكبرى في المشهد العام. فالممارسات سلبية كانت أو إيجابية، لا تستمد أهميتها وقوة تأثيرها، إلا ضمن علاقتها بالنموذج، فالجنس مثلا، بكل توجهاته وميولاته وانحرافاته، يحتل مكانته المرموقة والطبيعية في قلب هذه الترسانة، إلا انه وفور اقترانه بفضيحة تخص نموذجا اجتماعيا ما، متميزا بسلطته الرمزية، وبحضوره الاعتباري في قطاع اجتماعي، سياسي أو فني، فانه لا يلبث أن يخرج عن إطار المألوف، إلى إطار الممارسات الشاذة، المرفوضة، والمثيرة للجدل على جميع المستويات التواصلية، فعبر هذه النماذج تماما تتحقق إعادة بناء المفاهيم والقيم، حيث لا مجال للإنصات، إلى أي رسائل، مهما كانت أهميتها وقوة حضورها، خارج هذه المواصفات.علما بأن المهم في تصريف هذه النماذج، هو تكريسها كواقع قائم الذات، وكبديل فعلي لمجموع الحالات المنفردة والخاصة التي تتشكل بها الهوية الموضوعية للواقع العام، وطبعا في إطار استثمار ما تتميز به من تعالقات وتشابكات.
٭ شاعر وأكاديمي مغربي
رشيد المومني