الإعلام يأكل الآلهة ويرمي عظمها للملوك… وتطبيق الإيمان بارضاع الكبير

إنه إلههم، تمثل لهم على هيئة عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل، يحميهم من فرعون وجنوده، كما ذكر «سفر الخروج» في الكتاب المقدس، ليتحقق الخلاص الاسرائيلي من العبودية بعد استجابة فرعون للضربة العاشرة على مصر، وهي فلسفة دينية استحضرها الجيش الاسرائيلي في حربه الشرسة على غزة في عملية «عمود السحاب» عام 2012، مسخرا منظومته الدفاعية «القبة الحديدية» للتصدي لصواريخ المقاومة التي بدورها استندت إلى أسطورة دينية استعارت منها اسما لخطتها الدفاعية ضد العامود «الإله» الالكتروني المعاصر، حيث أطلقت على صواريخها: «حجارة السجيل»، متكئة على حكاية أبرهة الأشرم، الذي حشد الفيلة لهدم الكعبة فسلط عليه الله طيورا ترجمه بحجارة من جهنم، كما ورد في سورة الفيل في القرآن الكريم، وبين أسطورة جيش الاحتلال وأسطورة المقاومة الفلسطينية، هناك توظيف للمعجزة الإلهية التي تتدخل لإنقاذ أصحاب كل عقيدة من العقيدتين: اليهودية والإسلامية، ولكن ممن؟
إن كان الله واحدا، فهذا يعني أن المعجزتين لن تتحققا، لأنه لا يمكن لله أن يحارب نفسه، ولا يمكن له أن يهزم نفسه أو ينتصر عليها، وإن كان لكل طرف ربه، فهذا يعني أن المعركة لم تعد بين خصمين أرضيين: محتل غاصب وصاحب أرض مغتصبة، إنما هي بين ربين يخوضان حربهما في السماء، لتصفية حسابات عقائدية لا دخل لها بنا، ولا دخل لنا بها !
لن أناقش طبعا مسألة وحدانية الرب أو تعدده، لأن الأمر يتعلق بتقنية الشحذ النفسي وشد الهمم والعزائم في الحروب التي لطالما استندت إلى البعد الديني وخيضت باسم الأرباب والآلهة وتحت لوائهم منذ «إلياذة هوميروس» وملحمة «الأولمب» وحتى «طقطقات» شعبان عبد الرحيم التسطيلية، التي يعلن فيها كرهه لبني اسرائيل في الوقت ذاته الذي يتغنى فيه بالفراعنة الجدد «السادات ومبارك» حلفاء «العامود»، فسبحان مغير العواميد !

سورة المصالحة!

إن كنت متأكدا وواثقا من ربك، فلا تخف من هذا النقاش، كل ما عليك فعله هو إدارة صحنك الفضائي وتوجيهه نحو قمر «فلسطين»، لتتابع برنامج «موضوع الملف»، الذي استضاف الأسيرة المحررة الدكتورة مريم أبو دقة – من الجبهة الشعبية – لطرح أكثر المواضيع سخونة في الساحة الفلسطينية هذه الأيام: هدنة بلير بين حماس واسرائيل !
الأسيرة الحرة أبو دقة أثارت ثلاثة مواضيع هامة تختصر الحالة برمتها:
فلسطين بلد احتل منذ أكثر من قرن ولم يزل محتلا، فكيف يتم توقيع معاهدات طويلة الأمد مع عدو يمارس انتهاكاته اليومية ولم ولن تردعه أية صفقة سياسية؟
هل معقول أن «حماس» و«فتح» تعقدان مصالحات مع العدو، ولم تتمكنا حتى الآن من التوصل لمصالحة وطنية بينهما؟
فلسطين ليست لـ«حماس» ولا «فتح» ولا «الشعبية»، فلسطين لكل الفلسطينيين، ولا بد أن تتوحد كلمة الفصائل وينتهي الإنقسام، فليس من المعقول أن تكون هناك غزة ورام الله وتضيع فلسطين بينهما !
الضيف الآخر كان متحدثا باسم حركة فتح، التي استهجن عزلها وتهميشها في المفاوضات، مستنكرا ازدواجية موقف حماس، التي كانت تعتبر الهدنة خيانة عندما كان أبو مازن يطالب بوقف إطلاق الصواريخ واللجوء إلى التفاوض، مهددا باسم رئيس السلطة أية محاولة لاستثنائه، فأين السؤال؟
لم يتبق على الحمساويين والفتحاويين بعد نفاد ذخيرة الخصومة سوى الاقتتال على من يطعن ظهر أخيه أولا… لكي لا يصافح أخوه عدوه قبله!
إن كان الله هو الذي قاد معركة المقاومين في الحروب الصهيونية على غزة، كما روج الإعلام وهلل، فلماذا يتخلى الطرف المقاوم عن قائد المعركة، وينسل إلى مائدة الوجبات التفاوضية المسمومة؟ على من سيفاوضون؟ على أساطيرهم الدينية التي خاضوا معاركهم تحت لوائها؟ أم على سنوات من الرصاص المصبوب والحصار الاضطهادي والقتل البطيء؟ لماذا لم يفاوضوا إذن قبل أن يتكبد أهل غزة كل هذا الألم والمعاناة؟
ترقبوا إذن احتفالا إعلاميا للحمساويين بالهدنة على اعتبارها طقسا دينيا يتنزل فيه الوحي بسورة المصالحة !

سدنة البلاط الإعلامي

أين ذهبت كل الشعارات، والهتافات، والتخوينات، والاستعراضات العضلية بجنود لم تروها؟
ماذا عن حرب الأساطير الدينية، وكل العدة الإعلامية التي أعددتموها لترهبوا بها عدو ربكم وعدوكم؟
هل لنا أن نسألكم إذن: ماذا ستقولون لأبطال الأنفاق والخنادق؟ كيف سيصبح أعداء ربكم حلفاءكم؟
هل توني بلير هو الوسيط المؤتمن على عهود الآلهة؟
ما هو مصير المقاومة؟
ماذا عن تصفية معركة «الأمعاء الخاوية» في السجون بعد تخدير محمد علان وإجباره على تناول الطعام وهو في غيبوبة !
من سيأخذ بثأر الله من سدنة البلاط الإعلامي، الذين عادوا من كل المعارك بمعدات إضافية، على طريقة الجاهلية، فكلما جاعوا أكلوا ربهم، ورموا عظمه للملوك؟!

مأزق فتونجي

لن نبتعد كثيرا عن المحور الأول لهذه المقالة، فلم نزل في إطار توظيف الدين لصالح المصالح السياسية، حيث استضاف مكي هلال الكاتبة الصحافية فريدة النقاش ورئيس قسم الفقه المقارن في جامعة الأزهر الدكتور عبد الفتاح إدريس على قناة «بي بي سي» العربية بعد انعقاد المؤتمر العالمي للفتوى في القاهرة بغية الاتفاق على صيغة مشتركة للتنسيق بين رجال الدين لمواجهة التطرف وفوضى الفتاوى . لا تخش على مكي من سخونة القضية مهما بلغت حرارتها، فهو قادر على التحكم بدرجة غليانها طالما أنه يعدُّ و ينضج ضيفه جيدا بعد أن يُدخل الحوار إلى الفرن، هدفه في طرح أية مسألة لا يعتمد الإثارة الفارغة من المضمون، ولا توجيه اللكمات إلى الضيوف، والإطاحة بهم على الهواء، أو الإنتقام منهم، فهو لا ينافس سوى القضية التي يتوجه إليها مباشرة دون فذلكة إعلامية لا تصل للمسألة بقدر ما تركب على ظهرها فتسخرها لمآرب استغلالية، وهذا تحديدا ما دفع إدريس للتهرب من سؤال مكي أكثر من مرة، فهل خاف من مأزق الزمالة الفتونجية؟ هل كشف مكي أزمة مراعاة رفاق الكار لبعضهم على حساب مراعاة ربهم حين أفحم ضيفه وأخرجه عن طوره لما أصر على سؤاله حول توظيف الآيات القرآنية الخاصة بإرهاب العدو لأغراض سياسية راح ضحيتها شباب غرر بهم في حروب لم يكن لله فيها ناقة ولا جمل؟
لم يكن أمام الشيخ بد من الاعتراف بهذه الحقيقة، بعد حشره في الزاوية، وتركيز مكي على أسماء شيوخ وعلماء دين، واستشهاده بنصوص صريحة للقرضاوي في هذا الشأن، رغم ان إدريس رفض بشدة في بداية الأمر أن يتطرق للتخصيص والتسمية، إلا أنه رضخ أخيرا، وصرخ واحتد، محتجا على استغلال الدين وتسخيره لمآرب سياسية بحتة، ليضرب بعرض الحائط كل الأسماء الطنانة ويعلي راية الله في الـ»بي بي سي».
لقد حرره مكي حين أخرجه من مأزق حرج الفتونجية، ليضعه أمام الحرج الأكبر: البث المباشر من حلبة الجحيم!

بلوى تطبيق الإرضاع !

السؤال المتعلق بفتوى إرضاع الكبير كان من نصيب النقاش، الذي رأى أن هذا النوع من الأحكام الشرعية يصدر من فئة مؤمنة تماما بما تفتي به، ولا مجال لفرض معتقدات فئة على أخرى أو دحضها، لأن الممارسة تخص أصحابها، وليست مُلزِمة للآخرين، فهل نسلم بهذا أم نتأمله؟
الحقيقة أن المهزلة لا تكمن في الفتوى فقط، بل بإمكانية أو فرضية تطبيقها واقعيا، فحتى لو كانت هذه الفتوى مستنبطة من قياسات اجتهادية على مواقف أو أحكام مشابهة، لا أظن أن هناك من سيقوم بتطبيقها لدافع ديني بحت، فكثير من الفرائض لا تحظى بأي اهتمام شرعي، وكثير من المحرمات يُغض الطرف عنها، فإن طق شرش الحياء، ووجدتَ من لا يترك فرضا ولا نافلة في الدين إلا وأداها، حتى وصل لفتوى الرضاعة هذه، فدمعتْ عيناه من خشية الله، وأصر على تطبيقها، اسأله عن إيمانه أين هو في ما يتعلق بانتهاك وتدنيس بيوت الله وأنت تتمتع بروح رياضية، معتبرا الأمر حرية إيمان مكفولة لصاحبها !
جرى إيه يا جدعان؟ والله لولا أنني رجل حييّ وخجول، لقلت أكثر من هذا، ولكنني سأكتفي بما يشف ولا يصف، وأنا أستذكر السياب حين استنجد بربه ليريحه من ألمه صارخا: «أريد أن أموت يا إله»، فأي صرخة تليق بكل هذا العبث المخزي سوى صرخة الأمانة الوحيدة: أريد أن أخون يا إله !

٭ كاتبة فلسطينية تقيم في لندن

لينا أبو بكر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    فهذا يعني أن المعركة لم تعد بين خصمين أرضيين: محتل غاصب وصاحب أرض مغتصبة، إنما هي بين ربين يخوضان حربهما في السماء، لتصفية حسابات عقائدية لا دخل لها بنا، ولا دخل لنا بها ! – انتهى الاقتباس –
    1- كيف لا دخل لنا بها يا أستاذة لينا هدانا وهداك الله ؟

    2- حماس لا تتفاوض على صلح مع الصهاينة فهذا لا يجوز شرعا لأنهم مغتصبين للأرض انما تتفاوض على هدنه فقط لالتقاط الأنفاس للمعركة القادمة

    3- موضوع ارضاع الكبير هو موضوع خاص بشأن سالماً مولى أبي حذيفة والقصة هي أن زوجة أبي حذيفة قد تبنت سالم قبل تحريم التبني بالاسلام ولهذا قصدت الرسول الكريم فأمرها أن ترضعه وهو شاب حتى لا تتحرج من الخلوة معه أما أن أمنا عائشة قد جعلت هذا الشأن عاما ولهذا لم تأخذ به زوجات الرسول الكريم ولا كبار الصحابة ولا التابعين فهو مجرد اجتهاد من أمنا عائشة لا غير

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول محمد _ الأردن:

    تحية و بعد …
    قرأت ما كتب, و قرأت للكاتبة سابقا, و أشهد بدقة الوصف و العبارة, و متانة اللغة و قوتها, و التنقل بين الأفكار, بقزات غزالية محكمة, لكن الجوهر, ما هو, إلى ما يرمي, ما الهدف من الكتابة, أم أن الكتابة وحدها هدفا.
    الكتابة عن الله, و تحييد قدسيته, بلغة ديالكتيكية, لا تضع القارئ سوى أمام ضياع الحق في تفصيل ميتافيزيقي, و إستحضار الإرث الديني, و تصويره إسطورة بصريح العبارة, و الإتكاء على السؤال الذي لا يحمل أي تفصيل من الألم, ما هي النتيجة؟ دم في سبيل الله, لا يستحق أن يراق …
    حسنا, ربما يدعونا الجنون في زمن الإفتنان, لنسأل عن غاية كل ما يحدث, و ربما يتضعضع الإيمان فينا, حين يشذ كل منا إلى موروثه الديني.
    و لكن الشعاع الدال على عظمة الخالق و قدسيته, كان و مازال و سيبقى موجودا, و هو موجود فينا, حتى و إن إختلف موروثنا الديني, أو إختفلت مذاهبنا في النظر للحياة, ذلك الشعاع يراه أتباع الديانات كلها, و حين تغافل عنه قابيل إرتكب أول جريمة على الأرض, إنه الحق و الخير و العدل …
    كل ما عدا ذلك, مجرد تفاصيل … حتى الوطن, و هو من هو يصبح تفصيلا صغيرا, لأن الوطن ما لم يبنى على الحق و الخير و العدالة, يكون بؤرة للظلم و الجريمة …
    في فلسطين , هناك وطن حق مسلوب, محاصر في كل شيء, مغلولة يده, مقطوع لسانه, لا يستطيع طحن قمحه لقوت عياله, و غاز لم يرى في كل الدنيا سوى هذه البقعة ليغزوها … و الله يسمع و يرى , و تلك الأيام نداولها بين الناس
    …. فمن شاء أن يركب في سفينة نوح, فليفعل, و من أراد البقاء في وطن الأنا يعالج أسباب نزول المطر من الغيم, بدلا من صعود النهر إلى السماء, فله ذلك, و عند الله موعدهم … هذا خلق الله فأروني ماذا خلقتم .

    1. يقول لينا أبو بكر:

      أخي محمد … أحترم رأيك وسأخصص فقرة كاملة من المقالة القادمة الأسبوع المقبل للرد على ما تفضلت به بعون الله تعالى …
      شكرًا لكل القرّاء الذين يتأملون ويتفكرون .

    2. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

      الأخ محمد.
      “…و حين تغافل عنه قابيل إرتكب أول جريمة على الأرض…” تقصد بحسب الثرات الديني أم لديك معلومات إضافية ؟

      وشكرا.

  3. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

    أسلوب رائع , جميل , مشوق ومرحبا في محاولة رفع الغطاء ولو أنها محتشمة بعض الشيء يأخت لينا , هو الواقع المخذر فقط.

  4. يقول محمد عودة ،، الأردن:

    « لا كفاح بلا عقيدة .. ولا حياة بلا عقيدة
    ولا إنسانية بلا عقيدة »

    سيد قطب رحمه الله

  5. يقول فؤاد مهاني (المغرب).:

    يا أخت لينا لماذا تضعي الإسلام والديانات الأخرى في سلة واحدة.فكلام الله عز وجل ليس بأسطورة.والعقيدة الإسلامية هي المتنفس لكل مسلم مومن في كل مجالات الحياة حتى في مأكله ومشربه ومنامه.فما انتصارات المسلمين منذ بعثة النبي إلا بحملنا للواء الإسلام.وما هزائمنا كهزيمة حرب 67 سوى بعدم التزامنا بهذا الشرط الأساسي وفضلنا بدل ذلك إديولوجيات وضعية أدت إلى تقهقرنا وتراجعنا وانحطاطنا حتى تداعت علينا الأمم من كل أفق كما تداعت الأكلة على قصعتها.وربنا وربك رب واحد لا إلاه إلا هو رب إبراهيم وموسى وعيسى ورب اليهود والنصارى والكون كله.

إشترك في قائمتنا البريدية