الاختصاص والمؤسسة الأكاديمية

حجم الخط
1

تأسست كليات الآداب والعلوم الإنسانية في الوطن العربي لضرورات تستجيب من جهة لتحديث قطاع التعليم العالي إسوة بما يجري عالميا، ومن جهة أخرى لتكوين أطر تشتغل في التعليم الثانوي أو العالي. لكن بعد حوالي عقدين من الزمان تحقق الإشباع على مستوى تكوين الأطر، وابتدأ الاعتماد بصورة أساسية على الأطر الوطنية، وإن بقيت بعض الكليات العربية تستند بصورة خاصة إلى الأطر العربية أو الأجنبية، ولا سيما في دول الخليج العربي.
أما تحديث القطاع فقد توقف على حدود المرحلة الأولى، التي هيمن فيها الشيخ التقليدي من جهة والمستشرق من جهة ثانية. ورغم دخول مناهج (المناهج الاجتماعية والنفسية واللسانية) ومواد جديدة (الأدب المقارن، السيميائيات، السرد، الخطاب) في مقررات أقسام اللغة العربية وآدابها، على سبيل المثال، فقد كان التحديث ضعيفا وبلا أفق يجعل الدراسات الأدبية العربية تواكب مستجدات البحث العلمي، على المستوى العالمي ولا سيما بعد الثورة الرقمية.
هناك تفسيرات متعددة يمكن تقديمها لتشخيص واقع التأخر الذي تعرفه هذه الأقسام والشعب. وأكاد ألخصها في محورين اثنين. يتعلق أولهما بطبيعة المؤسسة، والثاني بخصوص الأساتذة. فالمؤسسة الأكاديمية لا يمكنها أن تتطور إلا بالأساتذة. والأساتذة لا يمكنهم التطور إلا بالدور الذي تضطلع به المؤسسة. وغياب التفاعل الإيجابي بين المؤسسة وأطرها الأكاديمية لا يمكنه إلا أن يجعل الدرس الأدبي متأخرا ومتجاوزا. فما الذي جعل هذه الحلقة مفرغة بين المؤسسة وأطرها؟ إنه الاختصاص. منذ تأسيس الكلية كانت الفكرة غير واضحة عن المواد والاختصاصات.
تتأسس كليات العالم وجامعاته على اختصاصات محددة، وهذا من بين دواعي التمييز بينها. وهناك فرق جلي بين الاختصاص والمادة. فقد تكون المادة واحدة، ولكن يمكن تناولها من اختصاصات متعددة. وهذا من بين دواعي الاشتغال في نطاق اختصاص معين أولا، بهدف الانتقال إلى تعدد الاختصاصات ثانيا. عندما نتأمل واقع أقسام «اللغة العربية وآدابها» في كلياتنا نجدها تتوزع حسب المواد وليس الاختصاصات. فهناك الأدب القديم والحديث، وهناك النقد والبلاغة، ومع دخول «اللسانيات» في مقرراتنا في السبعينيات بات التمييز ملحا بين «الأدب» و»اللسانيات». وبحسب اختيار الطالب بحث الإجازة يبرز الفرق بين الأدبي واللساني. ورغم هذا التفريق نظل نتعامل بمواد لا باختصاصات.
يمكننا التمييز بين «الاختصاص» كما تقره المؤسسة الأكاديمية، وهو ما تعترف به الإدارة الجامعية، والاختصاص الذي يشتغل به الباحثون بناء على دراساتهم وأبحاثهم الخاصة، ويخصصون له ندوات ومؤتمرات، أو يصدرون بخصوصه مجلات متميزة. وإذا كانت «الاختصاصات» التي أقرتها الكليات تنبني على مواد تمت في أزمنة سابقة، فإن بعض المواد باتت تفرض نفسها، وتم إقرارها كمواد تدرس في بعض أقسام اللغة العربية وآدابها، ولكن بدون أن تكون لها صفة الاختصاص الذي تعترف به الكلية، أو الإدارة الأكاديمية بصفة عامة.
ما تزال كلياتنا تميز بين «الأدب» و«اللسانيات» باعتبارهما اختصاصين مختلفين. لكنها داخل الأدب لا تقر باختصاصات مثل السيميائيات والسرديات. ولذلك يظل التعامل معهما باعتبارهما مادتين للتدريس فقط. ومن آثار ذلك أن هذين الاختصاصين لا يمكن أن يتطورا لأنهما يظلان من اهتمامات ثلة من الباحثين، بدون أن يكون لهما طابع مؤسسي يسهم في تطويرهما باعتبارهما علمين أدبيين لكل منهما خصوصيته وحدوده وإمكانات تفاعله وانفتاحه على اختصاصات أخرى. وفي غياب هذا الاعتراف المؤسسي سيظلان اختصاصين يتطوران من خلال أبحاث فردية خارج فضاء المؤسسة الجامعية.
نعتبر «الأدب» و«اللسانيات» اختصاصين «مؤسسَيين». بينما نجد «السيميائيات» و«السرديات» اختصاصين «استكشافيين» يمارسان من خلال أعمال بعض الباحثين بدون أن يكون لهما طابع «مؤسسي». وبذلك يمكننا استنتاج أن «الاختصاص المؤسسي» بدون بنيات بحثية تسنده داخل الجامعة لا قيمة له. كما أن «الاختصاص الاستكشافي» بدون مؤسسات تدعمه لا مستقبل له. ويبدو لي أن هذا هو المأزق الجوهري الذي تتخبط فيه كليات الآداب العربية بصفة عامة، وأقسام اللغة العربية وآدابها وشعبها، بصفة خاصة.
إنني حين أشتغل بالأدب، من منظور السرديات، لا أجد لنفسي داخل القسم أو الشعبة موقعا، أي داخل المؤسسة. قد أدرِّس «السرد العربي»، وقد أقدم مقررات حول النظريات السردية، لكن ذلك لا يمكنني من خلق «مختصين» في السرديات، باعتبارها علما، لذلك فعملي الأساس في اختصاصي يتم خارج الكلية، أي خارج المؤسسة. ويمكن قول الشيء نفسه عن سعيد بنكَراد، وهو يشتغل بالسيميائيات. قد يدرس مادة «السيميائيات»، أو يشرف على أبحاث تدور في فلكها. لكن شغله الأساس يتم بعيدا عن المؤسسة: يصدر كتبا وترجمات، ويشرف على مجلة «علامات» خارج أسوار الجامعة؟
إذا لم نؤسس الاختصاصات الخاصة (مؤسسيا) داخل قسم أو كلية كيف يمكننا الانفتاح على الاختصاصات المتعددة أو المتداخلة داخل الجامعة؟ إن حاجة كليات مثل الحقوق والإعلام والمعلوميات، وسواها إلى السيميائيات والسرديات وتحليل الخطاب ضرورية جدا، حاجة كليات الآداب إلى المعلوميات، وأقسام اللغات إلى الفلسفة والمنطق، وغيرها.
بدون تجديد المؤسسة الجامعية العربية أسئلتها، وبدون مواكبة الأساتذة المستجدات لا حديث عن مستقبل البحث العلمي العربي.

٭ كاتب مغربي

الاختصاص والمؤسسة الأكاديمية

سعيد يقطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    تحديث المناهج الدراسة ضرورة ملحة في كل النظام التعليمي العربي وليس فقط في العلوم الانسانية، فسبب من اسباب تخلفنا هو تخلف الانظمة التعليمية والتربوية ( وهذا موضوع اخر مكمل لمقال استاذنا واسيني اليوم) فالمناهج العلمية هي كالادبية تحتاج الى تطوير كبير كي تكون قادرة على النهوض بالمجتمع ككل والخروج من التخلف العلمي والتكنولوجي، وبدل ان نرصد مئات المليارات للتسلح يجب رصد اموال للبحث العلمي وتطوير المناهج العلمية كي نقف في وجه اعدائنا بقوانا الذاتية. رحم الله استاذنا محمد حتاحت في الرياضيات والفيزياء الذي وقف يوما في باحة المدرسة في دمشق وكنا نرغب الخروج في مظاهرة ضد اسرائيل بعد احد اعتداءاتها علينا وقال: اذا اردتم ان تنتصروا على اسرائيل فعليا فعليكم بالفيزياء والكيماء والرياضيات فالعلم هو اساس التطور والنجاح

إشترك في قائمتنا البريدية