الاستقلال وصون التابعية … أدوات الوعي بالاستعمار… وتداعياته ثقافياً

حجم الخط
2

في سياقِ تحليل آلية التّكوين الثقافي للخطاب الاستعماري، يُلاحظ أنّ بعضاً من أهم منظريه الذين ينتمون إلى المستعمرات السابقة، اختبروا بطريقة أو بأخرى الحقبة الاستعمارية وما أعقبها من استقلال، وهذا ما يجعلهم شاهدين على تحولات الفضاء الثقافي والسياسي لبلدانهم، غير أن توقعاتهم بزمن أفضل من أزمنة الاستعمار لم تتحقق، فعصور الاستقلال لم تجلب معها سوى الانحطاط، فمعظم الدول التي خضعت لعقود أو لقرون من الاستعمار نشأت مشوّهة، حيث خرجت كياناتها أشبه بمسخ على شكل دولة، أو أشبه بكيانات فوضوية، كما أن الاستعمار أبقى على أذرعه « الثقافية» في تلك المستعمرات، لصون أنساق التابعية. إن المتأمل في واقع الدول المستقلة، ولاسيما في العالم العربي، كما القارة الأفريقية تحديداً، يلمح البنية الثنائية التي تنهض على فكرة العبد والسيد، أو كما يسميها نغوغي واثينغو «الإعالة»، فالعبد يقوم بإعالة السيد، فإذا كان الأوروبي قد غادر تلك المستعمرات السابقة، فإنه ما زال في وعيه، يعتقد بأنه قادر على إدارة القطاعات الجغرافية التي كانت تابعة له في زمن ما، كما أنه إذا كان الغرب قد فقد شيئا من أثر التحكم العسكري، فإن أدواته الثقافية ما زالت فاعلة، بل ما زالت قادرة على صوغ كافة المشاهد لمرحلة ما بعد الاستعمار، ولكن كيف تحقق ذلك؟
إن الناظر للصراعات الدائرة في عدد من الدول العربية، كما الأفريقية، سيجد أن معظم هذه الفوضى هي نتاج الأنظمة الوطنية الديكتاتورية، وبذلك فهي نتاج مرحلة تالية للاستعمار، كما أن كافة الخطابات الأصولية ما هي إلا نتاج تغذية ثقافية عمدت لها الدول الإمبريالية من أجل تكريس ونبذ القيم العقلانية والمشاريع التنويرية التي نشأت مع بدء الاستقلال، والتي جاءت من لدن عدد من المفكرين والنخب التي كانت تركّز في خطاباتها على قيم العقلانية، والتسامح، والانفتاح، والعدالة بيد أن تلك النخب لاقت مقاومة شرسة من النظم الغربية الاستعمارية الكلاسيكية، وأذرعها الثقافية، نظراً لمحاولة تلك النخب تأسيس وتغذّية أنساق الانعتاق من التابعية في بعض الدول التي لم تنل الاستعمار بعد؛ ولذلك كان لا بد من إيجاد نسقين من الخطاب: الأول خطاب يكرس الثقافة العليا للغرب. ثانياً: إبراز ودعم تيارات تنهض على فكرة التمركز التي تضطلع بها عُصب محافظة، قُطرية، طائفية مارست إقصاء كافة المكونات الأخرى بهدف تجسيد أجندة الفصل الأوروبي، كما الحؤول دون قيام نظرة كلية شمولية يمكن أن تهدد الهيمنة الإمبريالية، فالعالم المستعمّر ما هو إلا مجال حيوي أو مزرعة للدول الإمبريالية الكبرى للحصول على المواد الخام، بوصفها أسواق مستهلكة.
إن سياسية الاستعمار عينها لم تتغير حتى اللحظة الراهنة، وإن أذرع القوى الاستعمارية ما زالت تصوغ المشهد السياسي عبر خلق ولاءات تابعة، وهي ذات متمظهرات نصية ثقافية، ففكرة التابع تعدّ محور العملية السياسية التي يمارسها المستعمر إلى الآن، ولعل هذا ما دفع إلى نقل هذه العملية إلى الثقافة والأدب والتعليم والاقتصاد، وكافة المناحي التي تتصل بتكوين الدولة، فمعظم منظوراتنا الحضارية ترتهن للنموذج الاستعماري، ولننظر في التعليم الذي صِيغ بعناية من أجل الإبقاء على هيمنة القيم المتعالية للقوى الخارقة للثقافة الغربية، ولا سيما الإنكليزية منها، فقراءة في نتاج المستعمرات الأدبي، لم يكن ليتأتى، أو ليتحقق إنشائياً في سياق نظرية ما بعد الاستعمار، من خلال النصوص التي وضعتها أقسام اللغة الإنكليزية، وسياسات التعليم ما بعد الاستعماري بعصا النظام الاستعماري، فالنصوص الأوروبية كانت تهدف إلى تغذية العقول المستعمرة بمركزية تفوق الثقافة الإنكليزية، فكتابات شكسبير، وشارلوت برونتي، وجين أوستن، وجورج أوريل… وغيرها بدت معزولة عن أثر النموذج الاستعماري، فالوعي الاستعماري الثقافي «الخاص بنا» كمستعمرين لم يكن إلا نتاج تلك النصوص التي ولدت في الشرق الأوسط، والكاريبي، والعمق الأفريقي، إنها تلك الأعمال أو النظريات التي تقوم على معنى التأمل، والنظر إلى واقعنا، ولهذا كان نايبول، وأتشيبي، وسوينكا، والطيب صالح، وجورج ليمنغ، وغيرهم.
تمتلك الشعوب المستعمرة رؤية خاصة لتفسير العالم، وتتأسس على الجانب الشفهي الذي عد نموذجاً خاصا جداً. إذ لم يكن العالم المستعمَر قد خضع للاختراق بعد، كما لم يكن قد تلوث بالثقافة الطارئة، أي ثقافة التصنيف، والمحاصصة الغربية، فنتاج الاستعمار بتداعياته وسلبياته يفوق سلبيات أي نموذج محلي غير متقدم تقنياً، ومع أن كلامي هذا يجب ألا يفسر برفض حتمية التقدم نحو الأمام، وتحقيق الارتقاء والازدهار الواجبين، غير أن المقاربة هي المشكلة، فالعزل الذي مارسته اليابان كفل لها أن تربح معركتها الحضارية، على الرغم من أنها خسرت الحرب، في حين أن بعض الشعوب المستعمرة التي راهنت على العصا السحرية للأوروبي والغربي، ما زالت تدفع ثمن رهانها، بل ما زالت مع ذلك تصرّ على أن تكون نموذجا للعبد، أو ذلك المعيل… التابع.
إن تفسير العالم في العالم المستعمَر كان يقوم على الحكاية الأسطورية، والنظم الرمزية، غير أنها تبقى مع ذلك نتاجا حقيقيا، فكما يشرح نغوغي واثينغو بأن أفلاطون وفرويد ويونغ فسروا الكثير من الظواهر انطلاقاً من تلك التصورات الأسطورية والرمزية، وهذا لكونها أقرب إلى تخيل العالم، وفهم دقائقه، وبذلك فإنه ليس هنالك أفضل من الرواية والقصة لفهم العالم، فهما النموذج الأمثل، وهنا يستعين نغوغي واثينغو بقصته الشهيرة «محاربو الماو ماو» التي تعدّ من روائع الأدب، إنها قصة تلخص العالم الذي لن يستعاد من قبل السكان المحليين الذي فقدوا عالمهم نتيجة حضور المستعمِر، ولعل هذا ينطبق وقع الحافر على الحافر على الفلسطيني الذي لن يستعيد عالمه مهما حاول، حيث حاول الاحتلال الصهيوني إعاقة التواصل مع الفضاء الثقافي الذي ينتمي له، فالمحارب في قصة نغوغي عاد إلى بيته من الاحتجاز البريطاني، آملاً أن يستعيد حياته السابقة، أو للبحث عن بداية تتجذر في عائلته، غير أن الواقع يأتي صادماً، فمجرى النهر لن يقبل التغيير، كما يقول نغوغي واثينغو، إن وعي الذات بفضائها لن ينهض به سوى الكتابات التي خبرت الأرض والرائحة واللغة، ولهذا لا يمكن لنص أدبي أن يعبر عن إشكالية وأزمة الذات المستعمرة ما لم يُعاين التجربة، وهذا يتطلب منا مراجعة الخطابات التي تصوغ وعي المستعمَرين، ومقدار مطابقتها للواقع الذي أنشأته الخطابات الغربية عن ذواتنا، ولذلك بتنا ضائعين في توصيف ذواتنا ثقافياً.
من اللافت للنظر أن تأمل الأثر الاستعماري في الأعمال الأوروبية كأعمال شكسبير، وكونراد، وغيرهما لم يكن واقعاً في وعي التسنين الثقافي النقدي الغربي، ومع أن ثمة دراسات نقدية في الوعي الأوروبي متميزة جداً، غير أنها غاب عنها الوعي بالاستعمار، ومن ذلك دراسة الهنغاري لوكاتش، حيث كان التركيز على النموذج الاجتماعي الطبقي. إن نماذج ومقولات العرق، واللون، هي بعض حوائج النصوص الأوروبية التي احتفي بها لزمن طويل، ولكن هذا الخطاب بات الآن في مرحلة تحول، إنه نموذج التقطه الكثير من الدارسين، ومنهم إدوارد سعيد مبكراً، كما ميشيل فوكو أيضاً. فالغرب لا يريد أن يرى فظائعه، بمقدار ما يريد أن يشيطن الآخر فحسب، فبعد أن استند الغرب لزمن طويل إلى مقولاته الخاصة بالطبقة، ومن ثم العرق، واللون التي استنفدت جميع وظائفها، لذلك كان لا بد من مواجهة الإشكالية الجديدة وتتمثل بإيجاد نموذج آخر، وهنا الأمر يتعلق بالدين. إذن ثمة دوما نتاجات ثقافية ينبغي أن يخلقها الغرب كي يعيد شحذ عقله الكلي، ولهذا بات العالم الآن في أتون صراع قوامه القيم الغربية العقلانية مقابل الدين الذي بات خاضعا لأنماط وقولبة. لقد بات الدين في الواجهة، ولا بد من خوض معركة مريرة معه، هذا التوجه لا شك بأنه يغذّي الأنساق الأصولية الإرهابية التي تتماهى مع القوة التي منحها الغرب له، لقد نفحه الحياة كي يبقى قائماً، ولتبقى أنظمة نموذج الصراع الجدلي – حسب المفهوم الهيجيلي- بوصفه جزءاً من التكوين الأوروبي الغربي الباحث في كل عصر عن نموذج يشيطنه، أو ينتجه بيده، غير أن المشكلة تكمن في أن هذا النموذج «المشيطن» انطلت عليه اللعبة ليشرع في مطابقة الصورة، وبذلك أمسى نموذجا متعيناً للأنساق الافتراضية التي يخلقها الغرب.
إن نماذج كالبدائي، المتوحش والشرقي، والزنجي، قد استهلكت، ولهذا لا بد من خلق نموذج آخر، إنه الإرهابي- المسلم، الشرق أوسطي. لا بد للثقافة أن تنتج عدواً ما؛ فالغرب بلا عدو سوف يتعرض للتلاشي، نظراً لافتقاد حيوية الإنتاج القائمة على الإعالة التي مصدرها العنف الذي يعدّ ثقافة الغرب الذي ينتج الأسلحة التي تحتاج إلى المزيد من الحروب، ولعل هذا ما دفع فرانز فانون إلى أن يأتي في كتابة «معذبو الأرض» على هذا النسق من العنف الذي انتقل من المستعمِر إلى المستعمَر، ولكن لا بد من التنبه إلى أن العنف ليس إلا نسق استهلاكي لا يمكن للثقافة الغربية أن تحيا دونه، فهي التي تحتكر إنتاج السلاح، كما تنتج الثقافة، والسينما، والفنون، وأنظمة التعليم، والتقنية، ودورات التطوير الذاتي والاجتماعي، وغيرها من المنتجات التي تستهلك من قبل تلك الشعوب المستعمّرة ولكن بنهم غريب.
إن المتأمل في ميزان التجارة بين الولايات المتحدة كما سائر الدول الإمبريالية وبين المستعمرات السابقة سيجد أن الميزان عادة ما يرجح لصالح تلك الدول الغربية، فنحن نشتري منها أكثر مما نبيعها، فهي تنتج، ونحن نشتري الثقافة ومعها الموت أيضاً، وربما أي تحول في هذا الميزان سوف يفقد الغرب رفاهيته ومصدر قوته القائمة على «المعرفة»، فلا جرم أن يكون حريصاً على عدم امتلاكنا لها، أو حتى معرفة الطريق إليها، وكي يتحقق ذلك لا بد أن ننشغل بذواتنا، لا بد أن نشيطن، أن نصنف إلى عدو، أو صديق، أو حليف، وبذلك نبقى ننتقل إلى الأبد من أطوار الهمجية إلى الدنو العرقي، والقصور الثقافي، وأخيراً إلى الإرهاب… وغير ذلك من الأطوار التي صاغها الاستعمار بوصفها درباً حتمياً ينبغي أن نبقى منقادين فيه حتى نستهلك المزيد من الثقافة والسلاح الغربيين.

كاتب فلسطيني- الأردن

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الجواد صالح ، فلسطين:

    لقد وفقت ، فوضعت النقاط فوق الحروف. شكرا لك

  2. يقول محمد لفويرس:

    مقال جميل ورائع يتناول موضوعا شائكا لايزال يحظى بإهتمام الأكاديميين والباحثين بكل دول العالم خصوصا “دول العالم الثالث” ….الغرب بنى حضارته على الأوهام والمقولات الزائفة وحاول قدر الإمكان فرض معرفته لنفسه ولنا علينا . في البداية إستعمرونا بحجة دونيتنا و عدم قدرتنا على فهم الطبيعة و نواميش التطور والحياة لذلك كان من اللازم -حسب تصورهم الخاص- أن نبقى لفترة من الزمن تحت الوصاية حتى نبلغ النضج لكي نصير قادرين على تحمل أمورنا بأنفسنا . لكنهم حين غادروا بلادنا تركوا لنا ما يشوه أجسامنا ويعيق تقدمنا للأفضل …تركوا أذنابهم يسبحون بحمدهم ليلا ونهارا و تركوا لنا قنابل موقوتة تتخفى وراء الشعارات والعناوين البراقة و التي ساهمت في تمزيقنا وتشتيتنا و تخفلنا عن ركب الحضارة الإنسانية – طبعا ليس بمفومها الغربي الضيق العنصري .
    واليوم يعملون بكل جهدهم لكي يلصقوا بنا تهمة القتل و الإرهاب .

إشترك في قائمتنا البريدية