بيروت – منذر سماحة : «إنها لتعاسة كبرى ألا أستطيع أن أكون وحيدًا»
عندما قال لابرويير، فيلسوف الأخلاق تلك العبارة، لم يكن يقصد أنه ينبغي على المرء أن يكون وحيدًا مدى حياته، لكنه قالها وكأنما ليؤنب هؤلاء الذين يسارعون إلى نسيان أنفسهم وسط الجماعة، وكأنهم خائفون، من عدم قدرتهم على احتمال أنفسهم.
يشيع عند الناس أن الانطوائيين، هم الأشخاص الذين يفضلون الجلوس وحدهم لفترات طويلة، غير أنهم، غالباً، لا يعلمون أن هؤلاء الإنطوائيين ينشدون السعادة، في سعيهم للانفراد بذاتهم، فكما يقول باسكال، كل تعاساتنا – تقريبًا – تأتي من عدم قدرتنا على البقاء في غرفتنا، لافتًا بذلك إلى أن السعادة يمكن أن تكون في الوحدة، وذلك على عكس ما يعتقد الكثير من الناس، من أن السعادة تكمن في الحركة.
عادة ما تترك كلمة انطوائي معنى سلبيا لدى متلقيها، كأن يكون الشخص المنطوي مريضا أو به علة، لكن طبقًا لاختبار ونظرية الميرز – بريجز للشخصية، فإن الانطوائية أو الاجتماعية هما سمتان للشخصية تكوّنان التركيبة العامة، وهكذا، فإن الشخص يستمد مصدر قوته من كونه منطويا، أو اجتماعي، فالشخص المنطوي، مثلًا يستمد مصدر قوته من خلال انفراده بنفسه، بينما الاجتماعي يستمد مصدر قوته من خلال تعامله مع الناس.
حينما سُئل الشاعر الفرنسي شارل بودلير، حول ما إذا استشعر يومًا بالحاجة إلى مشاركة الآخرين مسراته، كان رده بأنه لا يحق لأحد أن يقحم نفسه في مسراتي، لأني لا أقحم نفسي في مسراتكم التافهة. غير أن بودلير في رده هذا، كان يحمل كرها شديدا لهؤلاء الثرثارين التافهين، يقول في قصيدة العزلة: «ففي أجناسنا الثرثارة، هناك من سيقبلون – بقليل من المضض – أقصى عذاب، فيما لو سُمح لهم بإلقاء خطبة عصماء من فوق منصة الإعدام، دون خشية أن تقطع طبول الجلاد الكلام على حين غرة».
غالبًا ما تتحدد شخصية الفرد الاجتماعية منذ صغره، ويتأثر بوالديه، فإذا كان الأب أو الأم غير اجتماعيين، ويتجنبان المناسبات الاجتماعية التي من خلالها يمكن للطفل ان يتعرف إلى الناس ويتعلم منهم مهارات التواصل، فإن الطفل سيصير انطوائيًا. كما يجب على الوالدين أن يشاركا أطفالهما الأوقات سويًا، كأسرة وليس بشكل منفرد، وهو ما يشجع الطفل على التواصل مع أسرته، ومن ثم الناس من حوله.
كان شارل بودلير ينعم بحنان أبويه منذ كان طفلًا، وقد نشأ في ظروف مادية ميسرة، غير أن تحولات كبيرة، حدثت في حياته غيرت ذلك المسار. توفي والده وهو في السادسة من عمره، وعلى إثر ذلك، تزوجت والدته من ضابط كبير، سعى بكل الطرق لإبعاده والتخلص من غيرته ومضايقته، فأدخله القسم الداخلي للمدرسة، الذي كان يشبه الثكنة العسكرية، فازدادت كراهية بودلير لزوج أمه نتيجة لذلك.
انعكست ظروف بودلير النفسية على التعامل مع الآخرين، إذ عرف عنه تمرده على أساتذته وكراهيته لهم، كما عرف عنه نفوره من أصدقائه، وأثار مشكلات عديدة، عندما انتقل إلى معهد الدبلوماسيين في فرنسا، فاضطر المعهد أن يطرده.
ولعل علاقته المتوترة بأمه كانت السبب في كراهيته للنساء وتفضيله للوحدة، ففي جلسة زيارة جمعته بأمه لإحدى العائلات الصديقة، تطرق الحوار لذكر المرأة ودورها في المجتمع، فانتفض بودلير وقال، إن النساء في رأيي كالحيوانات والدواجن، لا بد من حبسها وإغلاق الباب دونها، وضربها وتأديبها، لكن مقابل ضرورة القيام بتغذيتها والعناية بها، فظهر الامتعاض على وجه أمه التي كانت تعرف بحرصها على المجاملات الاجتماعية.
كانت العزلة التي أحكمها بودلير حول نفسه، هى مصدر قوته وإبداعه، فقد أثبتت إحدى النتائج المثيرة لدراسة أجريت عام 1994، أن البالغين الذين لا يفضلون الوحدة غير قادرين على تنمية المواهب الإبداعية لديهم، فالعالم في حاجة للإنطوائيين لأنهم الأكثر إبداعًا.