عزيزي الدكتور محمد البرادعي القاطن بفيينا، بهذه العبارة بدأ الشاب محمود بلال رسالته الافتراضية للبرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهذه الصفة تقريباً تبدو مرضية وكافية للشخصية القانونية الدولية، لأن مسيرته في الفضاء السياسي المصري اتصفت بالتردد والارتباك، ومحصلتها على مسار الأحداث منذ ثورة يناير 2011 تتراوح بين الإضرار بالثورة وتقدمها وتمكينها من جني المكتسبات المشروعة للشباب من الثوار وبين الخروج بمحصلة صفرية نتجت عن سلبيته في التعاطي مع التحديات، وتهربه من مواجهتها لأسباب واهية وغير مفهومة، وأحياناً دون إبداء أي أسباب.
يروي بلال، الذي تناقل المئات رسالته الساخرة، ظهور البرادعي على المشهد المصري منذ سنة 2010 وكيف أتت افتتاحية تجربته مع المعارضة في مصر، بالتأكيد على أولوية خصوصيته ومساحته الشخصية على أي قضية أخرى، فاتجه لسيارته ذات الدفع الرباعي بسرعة ودون كثير من الالتفات لمن انتظروه، ليجهض محاولة مئات الشباب الذين استقبلوه في المطار من الالتفاف حوله وتدشينه زعيماً وطنياً، أو سعد زغلول القرن الجديد، ومع ذلك كان الشباب يحاولون أن يجعلوه زعيماً أو مرشداً أو رأساً للثورة في أكثر من مناسبة، وفي كل مناسبة كان البرادعي يخذل الجميع ويعود لمساحته الشخصية ويلوذ بالصمت، الذي يقطعه من وقت لآخر بتغريدة على موقع تويتر تصبح هي في حد ذاتها موضوعاً للتأويل دون أن تحقق أي نتيجة ايجابية، ليزيد من حيرة مؤيديه وممن ما زالوا يرونه مخرجاً مناسباً من الأزمة السياسية في مصر.
البرادعي لم يكن مخطئاً في أي من تصرفاته، وسيرته الذاتية لا تشتمل على أي مؤشر كان ليدفع المعارضة المصرية لتنصبه في موقع زعيم منتظر، فلم يكن في تاريخه من زعامات الطلبة أو أعضاء الأحزاب السرية، وبدأت حياته العملية في وزارة الخارجية، التي استقال منها احتجاجاً على اتفاقية كامب ديفيد، ولكنه لم يكن الوحيد، فثلاثة من وزراء الرئيس السادات تتابعوا على الاستقالة، غير الكوادر الأخرى التي لم تطلب الانتقال إلى مواقف البطولة من أجل اتخاذها للموقف الوطني في ذلك التوقيت، ثم أن مسيرة البرادعي لم تكرسه معارضاً للسلام أو التطبيع، ولم تكن القضية الفلسطينية لسنوات طويلة من مفردات خطابه السياسي.
مضت حياة الرجل في الوظائف الدبلوماسية، فهيئة الطاقة الذرية تقع ضمن منظومة العلاقات الدولية، وتتطلب شخصاً يجيد التعامل مع التوازنات المطروحة في أحد المواضيع الساخنة، وعودته لمصر كانت متأخرة عن انطلاق حركة وطنية رأت في سياسات حسني مبارك ونجله فيما بعد تجريفاً وتخريباً لكيان مصر وروحها، وكان بين المتقدمين في هذه الحركة الدكتور عبد الوهاب المسيري وعبد الحليم قنديل ومجدي أحمد حسين وأحمد بهاء الدين شعبان وأبو العز الحريري، وبينما كانوا يعانون من تضييق الأجهزة الأمنية المصرية، التي واصلت التعامل بصلف وتجبر مع المحتجين كان الدكتور البرادعي يحارب على جبهات أخرى أوصلته للحصول على جائزة نوبل للسلام.
من المخطئ في اعطاء الدكتور البرادعي الفرصة ليكون لوحده ثلثاً معطلاً في حركة الثورة المصرية، لأن يخذل مناصريه ويفرط في تضحياتهم، لا من خلال التنازل، فذلك في حد ذاته فعل سياسي، ولكن من خلال تجنب المعركة من الأساس، الهروب والاختفاء؟ شباب الثورة هم المخطئون، أخذتهم النزعة الفرعونية في إثبات التفوق واعتقدوا أن مجرد السمعة الدولية تعطيه ميزة قهرية وفوقية على الزعامات المحلية، التي بذلت تضحيات جسيمة، ووضعوا توقعاتهم العالية في الرجل، دون أن يزعم هو شخصياً بأنه يستطيع أن يضطلع بها، وتخيلوا في الرجل كاريزما لم تكن يوماً من سماته الشخصية، فالقادة يصنعون من طينة أخرى، وكل ما كان يمتلكه البرادعي هو جائزة نوبل للسلام، وهي الجائزة نفسها التي لم يحصل عليها غاندي ومعظم زعماء التحرر في العالم.
القصة المصرية الكلاسيكية نفسها تتكرر في كل مرة، الحصول على اعتراف العالم الخارجي أهم كثيراً من انتزاع الاعتراف في الوطن، والبرادعي لا يختلف نوعياً عن الممثل خالد النبوي الذي اعتاد أن يقوم بتسويق نفسه على أساس أدواره العالمية، بينما في الحقيقة كانت هذه الأدوار المتخيلة لا تعدو كونها خطوة أبعد من الكومبارس وأقل من الممثل الثانوي، وفي السياسة لا يختلف البرادعي عن النبوي في مجال التمثيل، ولكن الأخير لا يمتد أثره على جيل بأكمله، وكل مشكلاته النفسية تبقى شأناً شخصياً خالصاً، والأمر يختلف مع البرادعي، فوجوده قريباً من مخرج الطوارئ لم يجعله غائباً، وكان يغري تيارات المعارضة بمناداته لتقدم الصفوف، ويعطيه الفرصة لأن يهرب في الوقت نفسه، وعندما يكون وجوده ضرورياً ولازماً ولا مناص عنه تقريباً، لأن الجميع ارتضوا بألا يتنازعوا في حضوره، وصغروا من أكتافهم أمام سمعته العالمية.
عودة البرادعي للعمل العام لا تعدو كونها تصرفا استفزازيا آخر، وربما فرصة ضائعة جديدة، فالقضية الوطنية ليست علاقة عاطفية معقدة يمكن أن تشهد التأرجح بين الهجر والوصال، ولكنها التزام إنساني وأخلاقي، وعودة البرادعي يجب ألا تضلل القوى الوطنية المعارضة في مصر، وألا تجعلها تعود للارتماء تحت البطل الخائب نفسه أو الصنم العاجز من جديد، ثم أن الحركة الوطنية الراهنة تواجه تحديات أكبر وأعمق وأكثر تعقيداً مما واجهته سابقاً، وكثيراً من الضبابية والغموض، وليست بحاجة لغموض مضاف وضبابية مستغلقة على الترجمة والتأويل مع البرادعي، وبكثير من التجرد تبدو المسحة الغاندية الخادعة، التي يحاول أن يستعيرها البرادعي ويوظفها مثل مشجب لكل انسحاباته السابقة، مضحكة ومثيرة للرثاء، فحتى الدالاي لاما يتصرف بإيجابية وشجاعة في كثير من المواقف، وبابا الفاتيكان، على الأقل بالنسبة لآخر ثلاثة وصلوا لهذا الموقع، لديه القدرة على المبادرة في خوض الاستحقاقات الكبيرة أكثر مما يتوفر للبرادعي.
نحن لا نقسو على البرادعي، ولكن في غمرة حدث يتميز أصلاً بالتدفق والاحتشاد المعنوي والعاطفي مثل الثورة، فإن شجاعة القائد ومبادرته وقدرته على المواجهة هي التي تبقى للتاريخ، أما مراسلاته وتغريداته فستصبح جزءاً من أرشيف الخيبة الذي يمتد في الحالة المصرية لقرون من الزمن. البرادعي كان يخذل شباب الثورة في جميع المناسبات التي حضرها والمواقف التي اتخذها، حسب كشف الحساب الذي قدمه محمود بلال في تدوينته الطويلة، وحضوره اليوم لا يعني شيئاً، فالتاريخ تجاوزه والمصريون اليوم يريدون طريقاً مختلفاً، ويبحثون عن نموذج جديد يمكن أن يمثله أبناء الفورة الثورية الذي جرى أقصاؤهم من صراع ممثلي الماضي وكهنته سواء من أصحاب نظرية الدولة الدينية، أو المتعلقين بأوهام مجلس قيادة الثورة، ثورة 1952 بالطبع، أشخاص ظهروا لوهلة في الأحداث الأخيرة ولكنهم تركوا بصمة واضحة مثل الدكتور مصطفى حجازي والمهندس ممدوح حمزة.
كاتب أردني
سامح المحاريق
تستحق ثورة 25 يناير 2011،ومحاولات وأدها،وسرقة
تطلعات وأحلام شبابها،أكثر من دراسة لتقييم الأداء،
لتحصين وتصليب الحراك القادم،وتجنب أخطاء وخطايا ،
ربيع واحد،فنحن على موعد مع مسار جديد،يضعنا على
ثوابت تجمعنا ،على المصلحة العامة،في وطن نستحقة،
نجد فية،عيش،حرية،كرامة،وعدالة،فهل نطلب المستحيل؟
تحية للجسارة،بكسر حاجز الخوف،وإعادة الوعي بروح مصر.