لو حاول أحدنا تعريب الحكاية الهندية عن الفيل والعميان الستّة الذين سقطوا عليه، ووصف كل واحد منهم العضو الذي ارتطم به من جسده، فإن البعير يصبح بطل الحكاية، أما العميان فهم ليسوا ستة فقط بل هم عدد يتعذر حصره، والبعير بالنسبة للعربي وفي ذاكرته الحضارية، ليس كما أطلق عليه «سفينة الصحراء» فقط، بل هو ساعي بريدها قبل أن يختطف هذه الوظيفة الحمام الزاجل، وهو أيضا يملك من الصفات ما هو قابل للأنسنة أو التأويل البشري، إنه خجول وقادر على أن يتماوت كي ينجو، وثأري لا ينسى من الحق به أذى، وله استراتيجية فريدة في عالم الحيوان هي السّنام الذي يختزن فيه احتياطيه من الغذاء، وإذا كان للبعير عشرات الأسماء في اللغة العربية، فذلك حسب ما يقول ميشيل بوتور لتعدد وظائفه وسلالاته، ولم يرد أي اشتقاق من التأنيث على حيوان سواه، فهو كما قال العرب القدماء يستَنوِق أي يتماهى مع أنثاه.
ولا ينافسه في المصير التراجيدي الذي انتهى إليه، سواء في حدائق الحيوان أو وهو يحمل أكياسا ينوء بها من الطحين والبطيخ، إلا الحصان، بطل الحرب وأداتها ورمز الكبرياء، بحيث نسبت الفروسية إليه، فقد انتهى هو الآخر إلى أن يجر عربة نفط أو حاوية قمامة في ضواحي المدن التي تحولت بفضل التخلف ومفاعيله السلبية إلى عناقيد من القرى.
ولو قيّض للحصان من يكتب مذكراته، كما فعل إسحق موسى الحسيني في كتابه «مذكرات دجاجة» لوجد منجما غزيرا في محتواه، وهذه مناسبة لاقتراح مدخل لمثل هذه المحاولة، فقد روي عن راقصة أدركتها الشيخوخة والبطالة عن مهنتها أنها كانت تقتني حصانا عرف عنه الفوز المتعاقب في السباق. وكانت العروس تعد من المحظوظات في جيلها إذا زُفّت على ظهره، أما صهيله فكان حتى الأصمّ يسمعه، لكنه شاخ وانتهى إلى بطالة تهدده بالقتل لو كان من أملاك الدولة.
كانت العجوز تقتسم مع صاحبها الهرم ظل شجرة في الظهيرة، ويصغيان معا إلى أصداء التصفيق في الأيام الخوالي، وكأن كلا منهما يعزي صاحبه في خريف العمر.
إن من سقط على البعير والحصان ليس ستة عميان فقط، بل هم ملايين العميان الذين تورط كل واحد منهم بالجزء الذي سقط عليه، بحيث يكون البعير أكثر من حاصل جمع أوصافه، كما وردت في تقارير العميان، وما فاض منه هو الجزء الذي لم يسقط عليه أحد.
حتى الآن تبدو الحكاية رمزية ومن تراث استنطاق الحيوان والطير على طريقة ابن المقفع وفريد الدين العطار، لكن المسألة بخلاف ذلك، لأنها واقعية بامتياز، فلو اعتبرنا البعير واقعا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا فإن العميان لا يحيطون به وبمساحته على نحو بانورامي، فالمثقف لا يدرك غير ما يتعلق بمهنته والسياسي لا شأن له بالثقافة وشجونها، فالواقع العربي غير مرئي من كل زواياه، والطافي على السطح منه لا يزيد عن الناتئ من جبل الجليد في المحيط، أو بمعنى أدق يليق بهذا السياق ويتناغم معه فهو لا يزيد عن كثيب رملي تختفي تحته دوامة قادرة على ابتلاع قافلة.
الاقتصادي الأعمى لا يعرف غير الإحصاءات والأرقام حتى لو كانت صماء، ويذكرنا بما قاله الفيلسوف والرياضي برتراند رسل ذات يوم لأحد أصحابه، قال له عمّ أتحدث عندما أجمع خمسة إلى خمسة أو أضرب اربعة بعشرة؟ هل هي ماعز أم اشجار أم بشر؟ وكانت تلك نقطة تحول غادر بعدها راسل التجريد ليقود مظاهرات في لندن ضد شرور عصره وما فيه من جنون نووي!
والمثقف الأعمى عازف مع سبق الإصرار عن السياسة والاقتصاد وهو لا يدرك أنهما يحددان منسوب السكر في دمه، وكذلك منسوب الضغط، إضافة إلى ما يتقاضاه من أجر على ما يكتب، ولو قيل له مثلا إن هناك مافيات ورق كمافيات النفط، وإن هناك غابات أمازونية ماطرة وخشبا خاما لهزّ كتفيه ساخرا ومضى، ولو دفع الفضول صحافيا عربيا لإجراء تجربة تتلخص في التعرف على ما تضم رفوف مكتبات الأدباء لتوصل إلى نتائج بالغة الطرافة فهو قد لا يجد فيها كتابا في الاقتصاد أو في المناخ والجغرافيا أو حتى الفكر السياسي ناهيك عن الأنثروبولوجيا والسايكولوجيا وسائر هذه «اللوجيات»!
إن تعريب الحكاية الهندية قد يدلنا على السبب الذي يبدد العجب، ويتضح المسكوت عنه والمتواطأ عليه واللامفكر به أيضا، وهو أننا نعيش في جزر متباعدة في أرخبيل بسعة قارة، ولا شأن لأحدنا بالآخر، فنحن لا نقرأ بعضنا إلا لطارئ جلل، للرصد بهدف التصيّد، ذلك لأننا لا نقرأ أنفسنا وإن كنا نظن أننا نكتبها.
البعير الذي أصابته عدوانا في التماوت بحثا عن النجاة، وفي اختزان الغذاء خشية الإملاق ذاته الذي أنتج ثقافة الوأد، وفي ادخار الثأر حين تأزف مناسبته، وصفنا جسده واعضاءه بمعزل عن بعضها، فكل أعمى وصف ما ارتطم به، ولم يخطر بباله أن العميان الآخرين ارتطموا بأعضاء أخرى لا يعرفها لهذا فكل تشخيص أو توصيف للواقع يعاني من نقصان، لكنه بدلا من تدارك النقصان والاستعانة بالآخرين يتغذى منه ويسعى إلى إدامته.
إن أمة فيها هذا التعداد الأميبي من المثقفين والكتّاب والشعراء ومدّعي الحكمة، هي أمة يحسدنا عليها الإغريق في عهد بركليس، لكن التقارير المتداولة عن البعير تفرض علينا إعادة تعريف منظومة من المصطلحات، بدءا من المثقف حتى الأكاديمي مرورا بصفة مبهمة هي صفة القارئ.
كاتب أردني
خيري منصور
تحياتي استاذ خيري منصور: الامر لا يتعلق فقط بالتوصيف والنظرة من بعد واحد، بل هناك خيانة الكل للواقع من المثقف الى السياسي الى القارئ والناقد. ان حاصل جمع ما ينتجونه هو كائن مشوه لا تعرف له راس من قدم. فقصة العميان لو ترجمت الى الواقع بناءا على وصفهم واتيح لفنان أن يرسم الجمل والفيل بناءا على الوصف لخرجنا بكائن لا ينتمي لا الى الفيل او الجمل وحتى السلحفاة.
وكذلك واقعنا الممهور بختم الخيانة للذات. هو عبارة عن تشوه حضاري لا ينتمي لا لشرق ولا لغرب،. ان اي حركة لتصحيح المعوج كفيلة بكسره وتدميره. لذلك فان الحالة التي نعيشها تعتبر ستاتيكية وغير قابلة للتغيير.
الاستاذ خيري منصور المحترم :- أحسنت …. تحياتي لك ولكل العاملين في الجريده