قديما ذهب نفر غير قليل من دعاة العدل والحق والحرية والتسامح والسلم إلى أن «التاريخ يكتبه دوما المنتصرون»، ودونوا ذلك بصياغات متنوعة تمثل خيطها الناظم في التأسي الكلي أو الجزئي على حال إنسانية تعجز عن «الانتصار النهائي» على الظلم والاستبداد والتطرف والحروب.
أما اليوم، فتخفت أصداء ذات المقولة بين المجموعات المدافعة عن الديمقراطية على الرغم من استمرار سطوة المستبدين ونظم الحكم السلطوية والتصاعد المرعب للمظالم والانتهاكات التي تلحقها آلات القتل والقمع الرسمية بالناس في عدد غير قليل من المجتمعات المعاصرة ـ وبلاد العرب من بينها. تخفت أصداؤها أيضا على الرغم من التآكل السريع لبعض مضامين حقوق وحريات المواطنين والمقيمين وطالبي اللجوء والمهاجرين غير الشرعيين في الديمقراطيات إن 1) بفعل تغول أدوار الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي تتيح لها التكنولوجيات الحديثة التنصت الدائم على الناس وتعريضهم لتهديد «الأخ الكبير» ـ الذي تتجمع لديه من المعلومات عنهم وعن حياتهم الخاصة وعن حياتهم المهنية وعن أفكارهم وقناعاتهم وأدوارهم في المجال العام ما يزيد بكثير عما يدركونه هم أنفسهم بوعي، أو 2) تحت تأثير المخاوف المرتبطة بالإرهاب المعولم الذي أصبحت عصاباته قادرة على تجاوز حدود المكان ـ من بلاد العرب إلى الغرب مرورا ببعض البلدان الآسيوية والإفريقية ـ والزمان ـ من ارتكاب جرائم ضد الإنسانية باستخدام الأسلحة الكيماوية إلى إعادة إنتاج وسائل قتل وتعذيب القرون البالية كالحرق والتهجير واغتصاب الضحايا والتنكيل الجسدي بهم وغيرهم، أو 3) على وقع الترويج المتنامي مجددا للعنصرية ولخطاب كراهية الآخر / الغريب ولجنون الإبعاد والترحيل والطرد لأطفال ونساء وشيوخ ورجال يبحثون عن النجاة بحقهم في الحياة وتصورهم العنصرية ظلما تارة كمعتدين طفيليين على «رفاهية» شعوب الديمقراطيات ـ الخطاب الرسمي لبعض الحكومات اليمينية في أوروبا الشرقية ولبعض المتنافسين اليمينيين على بطاقة ترشح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016 – وثانية كإرهابيين ومتطرفين محتملين ـ حادثة اعتقال الصبي الأمريكي من أصول سودانية أحمد محمد من قبل شرطة ولاية تكساس منذ أيام قليلة والحوادث الأخيرة لاعتداء صحافيين عاملين لوسائل إعلام أوروبية شرقية على بعض طالبي اللجوء القادمين من سوريا ومن غيرها من البلاد التي تسقط ضحية لثلاثية الاستبداد والإرهاب والتطرف ـ وثالثة كمجرمين خطرين خرجوا على القانون بهروبهم من جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية أو من الفقر والعوز وامتهان الكرامة الإنسانية وبطرقهم أبواب الديمقراطيات دون استئذان وانتظار للنظر البيروقراطي في «ملفاتهم» لسنوات وسنوات ـ تبرير رجل الأعمال والمتنافس على بطاقة ترشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب لفكرته النازية التي تقضي بطرد ملايين المهاجرين غير الشرعيين الذين جاءوا الولايات المتحدة الأمريكية واستقروا بها وبترحيل أسرهم التي يحمل فيها أبناء وأحفاد «الآباء غير الشرعيين» الجنسية الأمريكية.
ولخفوت أصداء مقولة «التاريخ يكتبه المنتصرون» بين المدافعين عن الديمقراطية في بلاد العرب، وفي البلاد التي تتشابه أوضاعها معنا، تفسيرات مختلفة يجمعها الجوهر الإيجابي المحفز على التمسك بالمطالبة بالعدل وبحقوق وحريات الناس وعلى مواجهة ظلامية جب الاستبداد والإرهاب والتطرف. لم يعد للمستبدين ولحكام النظم السلطوية الذين يملؤون الجنبات ويتزايد دون توقف الضجيج الصاخب لخدمتهم قدرة فعلية على فرض «روايتهم» الأحادية كحقيقة مطلقة لا تقبل المنازعة معرفيا أو قيميا أو مجتمعيا، كما أن سابق استئثارهم بعمليات «تدوين» سجلات التاريخ وتحديد هوية «ما يضمن وما يستبعد» من أحداث / تفاصيل / أوهام / أكاذيب بات ماضيا يتعذر إحياؤه وتستحيل إعادة إنتاج مضامينه.
بالقطع، يعمد المستبدون ونظراؤهم في النظم السلطوية إلى توظيف 1) تمريرهم لقوانين وسياسات وقرارات تمنع / تجرم حرية تداول الحقائق والمعلومات، 2) سيطرتهم على المجال العام بمكوناته التقليدية المتمثلة في وسائل الإعلام وفي مساحات النقاش العلنية في المدارس والجامعات ومؤسسات التنشئة الدينية والمدنية وغيرها، 3) قمعهم للمجتمع المدني المستقل بمنظماته ونقاباته المهنية وحركاته العمالية ومبادرات المواطنين غير التقليدية وحصار الإلغاء الذي يفرضونه عليهم جميعا، 4) تهجيرهم للمواطن المتمسك بحرية الفكر وبالتعبير الحر عن الرأي بعيدا عن المجال العام وإخضاعه للتهديد المستمر بالقمع وإحاطته بأسوار الخوف، 5) إماتتهم للسياسة كنشاط سلمي وحر وتعددي يبتغي صناعة التوافق حول الأهداف المشتركة للناس وللمجتمع ولمؤسسات الدولة لكي يفرضوا روايتهم الأحادية التي تصنع منهم 1) أبطالا مخلصين / منقذين و2) من مؤسسات وأجهزة قمعهم الأدوات الوحيدة لحماية الأمن القومي / المصالح الوطنية إزاء المؤامرات والمتآمرين و3) من الجرائم ضد الإنسانية والمظالم والانتهاكات عنوانا للحرب المشروعة على الإرهاب و4) من رافضي الصمت على الظلم وغياب العدل خونة وعملاء وخارجين على القانون يقبل أن ينزل بهم «العقاب الجماعي» لتطهير البلاد من شرورهم و5) من المواطن مكونا يعطل ضميره وعقله لكي «يذوب» في قطيع / جمع يؤيد المخلص / المنقذ ويشعر تجاهه بالحب والامتنان والعرفان.
غير أن ما تمارسه النظم الاستبدادية والسلطوية في بلاد العرب، وفي البلاد التي تتشابه مآسيها مع مآسينا، من توظيف عنيف لكافة استراتيجيات تزييف الوعي الجمعي هذه يعجز اليوم عن فرض روايتها الأحادية كحقيقة مطلقة لا تقبل المنازعة: أولا، لأن التكنولوجيات الحديثة، وكما تمكن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من المراقبة الدائمة للمواطن والتنصت المستمر عليه، تمكن أيضا من تداول الحقائق والمعلومات وتسمح للمواطن إن رغب بتحدي القيود القانونية والإدارية الكثيرة التي يقرها المستبدون في هذا الصدد.
ثانيا، لأن المجال العام لم يعد يقبل الاختزال إلى وسائل الإعلام التقليدية ومساحات النقاش العلنية المسيطر عليها حكوميا وأصبح يتسع لوسائط الاتصال الاجتماعي ولساحات للنقاش إما تغيب عنها ثنائيات القوة / السلطة التقليدية أو تحضر بتنوع في وجهاتها ومضامينها على نحو يبقي على درجة متميزة من حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي ومن التعددية. ثالثا، لأن الكثير من المجموعات المدافعة عن الحقوق والحريات والديمقراطية، على الرغم من حصار الإلغاء والتخوين والتشويه الذي تواجهه، تستثمر بوعي بعضا من طاقاتها المعرفية وإمكانياتها البشرية وقدراتها التنظيمية في «تدوين» تفاصيل حكم المستبدين وفي السعي «لنزع» طبقات الزيف المتراكمة بعيدا عن المظالم والانتهاكات لكي تراها قطاعات تتسع باطراد من الناس على «حقيقتها» وتدرك كونها ممارسات قمعية يستحيل تبريرها، وتتسارع من ثم وتائر «النجاة الجمعية» من ظلامية تأييد جرائم المستبدين أو الصمت عليها وتنجح على المديين الزمنيين المتوسط والطويل مهمة «تخليص» الذاكرة الجمعية من الوعي الزائف. لذلك، يبدو جليا، في بلاد العرب على سبيل المثال، انصراف قطاعات شعبية مؤثرة عن الروايات الأحادية، وتبلور «روايات بديلة» تسمي جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والمظالم بمسمياتها دون تحايل أو مساومة ـ من براميل ديكتاتور سوريا المتفجرة والقتل الجماعي منخفض التكلفة الذي تنفذه عصاباته إلى جرائم القتل والقوة المفرطة في فض اعتصامات الإخوان وحلفائهم في مصر مرورا بوحشية وهمجية تنظيم داعش وغيره من تنظيمات الإرهاب والتطرف التي تستدعي تأويلات زائفة وطائفية ومذهبية لتبرير الاستبداد البديل والتفلت المطلق من كل قيمة أخلاقية وإنسانية، ومن ثم تراجع الهيمنة الشاملة «للتاريخ الذي يكتبه المنتصرون» على وعي الناس.
أما في الديمقراطيات، فخفوت أصداء ذات المقولة يرتبط من جهة بالابتعاد التدريجي للحكام المنتخبين ومعهم نخب الحكم والثروة والنفوذ المتحلقة حولهم عن فرض رواية أحادية على مجتمعاتهم ومواطنيهم، ومن جهة أخرى بالحضور الطاغي لمؤسسات حكومية وغير حكومية يناط بها صياغة الروايات البديلة والترويج لها مجتمعيا ـ روايات الضعفاء والمضطهدين والمهمشين وغيرهم ممن لا صوت لهم في المجال العام. تتغول أدوار الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الكثير من الديمقراطيات وتوظف مقولات «خطر الإرهاب» والخطاب العنصري الكاره للآخر / الغريب لتمرير تآكل حقوق وحريات الناس وللعصف بسيادة القانون، غير أن نخب الحكم (خاصة نخب اليمين المتورطة هنا على نحو أعمق من نخب اليسار) تواجه منازعة فورية «لروايتها الرسمية» ما أن تخرج بها إلى المجال العام، وسرعان ما تراها تفكك علنا وتعرض تناقضاتها في وسائل الإعلام التقليدية والحديثة وفي مساحات النقاش شديدة التعدد التي تنتجها وتحميها البنية الديمقراطية للمجتمعات، وببراغماتية معهودة تنتقل نخب الحكم من محاولات لفرض الرواية الأحادية محكوم عليها مسبقا بالفشل إلى المشاركة مع معارضيهم في «التنافس» على إقناع الناس وصياغة تفضيلات المواطن (الناخب) وترجمتها إلى سلوك فعلي (الاختيارات الانتخابية). كذلك، تصطدم أوهام بعض الحكام المنتخبين ونخب حكمهم بصدد فرض رواية أحادية على مجتمعاتهم ـ كتجربة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وثنائياته السطحية (الخير / الشر، إما معنا / أو ضدنا، تحضر الغرب / تطرف الشرق) التي أراد أن يصنع روايته الاحادية مستندا إليها ـ بحضور طبقات متماسكة من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تقود المقاومة المجتمعية للأوهام هذه وتمارس على نحو منهجي تفكيكها وتفنيدها ودحضها. وفي الجوهر، كان ذلك في أعقاب إرهاب 11 أيلول/سبتمبر 2001 هو دور المؤسسات القضائية الأمريكية وأدوار مؤسسات التنشئة الدينية والمدنية المحايدة والمنظمات الحقوقية المستقلة ووسائل الإعلام الخاصة والنخب الفكرية والثقافية والفنية التي رفضت الاستجابة إلى ابتزاز «من ليس معنا فهو ضدنا» وإلى ممارسة سياسات الخوف.
ربما لم تغب تماما مقولة «التاريخ يكتبه المنتصرون» من سياقات النقاش العام، غير أن التراجع الواضح لسطوتها الفكرية والقيمية والمجتمعية بين ظهرانينا وبعيدا عنا يقدم دليلا حقيقيا على إمكانية مقاومتنا إن لنظم الاستبداد والسلطوية أو لتآكل حقوق وحريات الناس في الديمقراطيات وعلى الفرص الفعلية لتخليص الوعي الجمعي والذاكرة الجمعية من الروايات الأحادية.
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
كلام لا غبار عليه …
لكننا أضعنا الكثير من الوقت
و لم يتح الفرصة لمحاربة هكذا افكار ……. لان الحرب ضد اصحاب الفكر اصبح واجبا وطنيا و شرفا عسكريا .
كل التحيات لك استاذ عمرو حمزاوي الا اني لا اخفي انتقادي و عدم اتفاقي معك بكثير من الافكار( التحرريه ) التي لا تناسب اخلاق و كينونة مجتمعنا العربي مطلقا …….. و ان اردت التساهل و مرنا بموقفي ….. هي لاتصلح بوقتنا الحالي لان مجتمعاتنا غير مؤهله و غير مثقفه و غير حضارية و انا اعي ما اقول .
كل التوفيق لك و النجاح و التقدم
و ارجو ان احظى بلقائك في مصر الحبيبه عندما يسمح لي بدخولها
استاذ عمرو حمزاوي احيي فيك تسميتك الاشياء بمسمياتها حيث انك كنت الوحيد من ضمن “النخبة المثقفة”الذي قال ان ماحصل في مصر هو انقلاب ولكن اعيب عليك شيئين اولا مطالبتك مرسي بالرحيل عوض دعوة الناس الى التعود على ممارسة الديمقراطية والا نتظار حتى اسقاطه بالصناديق وثانيا سكوتك على كل مايحصل في مصر من انتهاك واضح لكل شيء.
عزيزي كريم، أشكرك على تعليقك المحترم. أتمنى عليك أن تراجع كتاباتي اليومية في الشروق المصرية لكي تتثبت من عدم صمتي أبدا على المظالم والانتهاكات ورفضي التعامل معها بمعايير مزودجة. لا يا عزيزي، لم أصمت خلال الفترة الماضية، ولن أصمت في قادم الأيام. تحياتي، عمرو
اشكرك استاذ حمزاوي على اهتمامك بالرد على تعقيبي وهذا ليس غريب على شخص مثلك
نعم لقد قرأت لك بعض المقالات التي تنتقد فيها بعض الاوضاع وبعض الانتهاكات في مصر ولكن ليس كل الاوضاع ولا كل الانتهاكات ولا بالقوة اللازمة.
ولكني لازلت اعيب عليك المشاركة في الخروج على نهج الديمقراطية
لان الرؤساء المنتخبون بشكل ديمقراطي لا يسقطون الا بشكل ديمقراطي اي “بصناديق الانتخابات” وليس بالمظاهرات وبالاخص في بلد حديث العهد بالديمقراطية ونريد فيه التعود على التداول السلمي للسلطة
اليس من الافضل ترك القطار يمشي حتى لو ظننا انه يمشي في الاتجاه الخاطئ على ان نراه يمشي يقينا في نفق مظلم ؟
انّه من وحي فوات الاوان .. تتحدّث كخرافة مصنوعة لتغني أنشودة …..لتعبّر وتقتنص سلطة متحكّم فيها …. الكلام الجميل له زمن دائم وفعل ملازم ..أمّا انت ففاتك القطار