ما تزال العلاقات بين كليات الآداب وكليات العلوم في وطننا العربي منفصلة، وبينهما هوة سحيقة. فالتفاوت الأكاديمي يقضي بقطع الجسور بين الجامعات، حتى إن كانت في مدينة واحدة. وفي وضع كهذا يصعب الحديث عن وضع أكاديمي متين على الصعيد الوطني. صحيح قد نجد المقررات واحدة ومشتركة، لكن كل كلية تتعامل معها بكيفية مختلفة بسبب اختلاف المرجعيات والمقاصد.
فإذا كانت كليات العلوم ذات مرجعية غربية، فإنها تتجدد في ضوء ما تعرفه الجامعات العالمية التي تسير على منوالها، فتدخل مواد جديدة، وبعض التغييرات على بعض المواد مراعاة للتطور العلمي. أما في كليات الآداب، فالتغيير شبه منعدم، لأنه من جهة، ليس هناك نموذج غربي نسير عليه، ومن جهة ثانية، حتى عندما تستدعي بعض المتطلبات التغيير، نجده لا يتم بالصورة نفسها في مختلف الكليات. لقد أدخلت اللسانيات إلى كليات الآداب المغربية، على سبيل المثال في السبعينيات، لكن إلى الآن ما يزال حضورها باهتا ومحتشما في بعض الأقطار العربية. ويمكن قول الشيء نفسه عن السيميائيات التي دخلت إلى الكلية المغربية في بداية الثمانينيات، وإن تأخر ظهورها في بعض كليات الآداب العربية، وصارت الآن تدرس في جل الكليات العربية، نجدنا نتساءل كيف يمكن لطالب لم يدرس اللسانيات أن يشتغل بالسيميائيات؟ ونكرر القول نفسه بصدد التداوليات، لقد احتضنتها بعض أقسام اللغة العربية وآدابها، ولكن في غياب اللسانيات؟
هذا نمط آخر من التفاوت الأكاديمي بين كليات الآداب العربية المعاصرة. وفي هذا دليل على غياب نموذج أكاديمي عربي يتم السير على منواله، كما نجد مع الكليات العلمية. فكيف يمكننا أن نتحدث عن تطور على مستوى الأدبيات والاجتماعيات والإنسانيات في الوطن العربي؟ أو نتحدث عن «مجتمع علمي» داخل هذه الكليات؟ ولعله لهذا السبب نجد التفاوت حاصلا على المستوى العربي في الأخذ بأسباب المناهج الجديدة، وفي تدريس المواد الجديدة ذات الخلفية المعرفية الحديثة. إذا كانت الجسور منقطعة بين الكليات والجامعات العربية، يمكننا لتجاوز الوضع الراهن الذي يتشكى منه الجميع، ويسعى المسؤولون إلى «التجديد»، لكنه يقف عند حد اقتراح الحلول التقنية، نرى ضرورة العمل على التفكير في المحتوى المعرفي، وآلياته المنهجية، بالدرجة الأولى. أما الحلول التقنية فيمكن العمل على تجاوزها بسهولة إذا ما وفرت مستلزمات ذلك. ولترجمة هذا التصور على مستوى العمل، لا بد، أولا، من أن تكون كليات العلوم العربية «أنموذجا» لكليات الآداب والعلوم الإنسانية على مستوى المحتوى المعرفي والعلمي. إن الغائب الأكبر في هذه الكليات الأخيرة هو الأخذ بأسباب البحث العلمي، سواء على مستوى التدريس أو البحث.
ما دامت، ثانيا، كليات الآداب العربية قد اتخذت النموذج المصري لأنه كان الأسبق عند تأسيسها، وتطور بعضها بمنأى عن هذا النموذج، يمكن إقامة جسور بين كليات الآداب العربية، عبر توحيد رؤيتها وتصورها للعلوم الأدبية واللسانية والإنسانية، عن طريق الاستئناس بما تعرفه كليات الآداب الأجنبية المتطورة. ومن بين الأهداف الكبرى لهذا التجسير، جعل إمكانية تنقل الطلبة العرب بين الكليات العربية بسهولة، فيحد هذا من سلبيات التفاوت الأكاديمي، ويقرب الفجوة بين الطلبة والباحثين العرب.
إن اختلاف المرجعيات التي يأخذ بها المشتغلون من الأساتذة، ولا أقول الباحثين ـ لغياب مقومات البحث العلمي ومستلزماته ـ داخل كل قطر عربي على حدة، وحتى داخل القطر الواحد، يرجع إلى كون الاجتهادات فردية، لا جماعية. ولهذا السبب نجد التفاوت الأكاديمي واقعا بين هذه الكليات، وهو يكرس «البعد» الفردي الذي يجعل الأبحاث والدراسات العربية في مجال الأدبيات والإنسانيات والاجتماعيات غير قابلة للتطور أو التحول، أو تصبح مرجعية يمكن العمل على تطويرها وإغنائها بالحوار الأكاديمي الحقيقي.
يمكن ان نضرب مثالا آخر لهذا التفاوت وما يؤدي إليه في غياب الجسور بين الكليات والجامعات العربية إلى التطور الذي حصل مع الرقميات. لقد انزوت الرقميات في كليات أو مدارس خاصة تعنى بالمعلوميات والتقنيات الجديدة. ولقد صرنا الآن أمام ضرورة استخدام هذه الثورة الرقمية في حياتنا العملية والعلمية. فما نصيب كليات الآداب من هذه الثورة على الصعيد اللساني والأدبي والاجتماعي والفكري؟
بادرت بعض الكليات العربية، لضرورة المواكبة، على سبيل المثال، إلى إدخال مادة جديدة اسمها: «اللسانيات الحاسوبية» فكيف يمكننا تأسيس لسانيات حاسوبية في غياب اللسانيات في مقرراتنا العادية؟ ومن سيتكفل بتدريس هذه المادة؟ هل اللساني؟ أم المتخرج من أقسام دراسة علوم الحاسوب؟ إذا لم يدرس اللساني المعلوميات دراسة معمقة، لا يمكنه أن يشتغل باللسانيات الحاسوبية، وكذلك المشتغل بالمعلوميات، إذا لم يكن ملما باللسانيات وعلومها الفرعية، لا يمكنه أن يشتغل باللسانيات؟ فكيف يجري العمل عندنا في غياب الجسور الأكاديمية، بين التخصصات؟ إننا نلجأ إلى الكتابات الأجنبية عن اللسانيات الحاسوبية، ونحاول تلخيصها، ونعطيها لطلبتنا ليحفظوها، ويتخرجوا بشهادة «اللسانيات الحاسوبية»؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن الأدب الرقمي؟
التجسير الأكاديمي ليس نزوة علموية، ولكنه ضرورة علمية، وإلا سنظل في آخر الرتب الأكاديمية أبدا؟
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين