لا شك أن تقرير «بي بي سي العربية» عن الوثيقة الصادرة «عن زعماء الطائفة في سوريا» بصدد «إعلان وثيقة إصلاح هوياتي» تشوبه عيوب المصداقية الصحافية بالمعنى المهني المألوف، بسبب غياب أسماء منشئي الوثيقة وضبابية تمثيليتهم الاجتماعية التي يدَّعونها. لكن أهمية هذه العيوب تتراجع، بالنظر إلى اللحظة السورية الخاصة التي صدرت فيها الوثيقة، ومضمونها الذي يعبر عن اجتهاد جدي في البحث عن مخرج للورطة التاريخية التي يجد العلويون أنفسهم فيها، والسرية الضرورية، حالياً، لأصحاب الوثيقة حمايةً، لهم ولها، من التبدد قبل الانطلاق والعمل. انطلاقاً من هذه المقدمات، يمكننا التعامل مع هذه الوثيقة بوصفها صوتاً داخل الرأي العام العلوي، قد لا يكون هو الغالب، لكنه يعبر، على الأقل، عن تيار مهم فيه يتوخى العقلانية السياسية، بصرف النظر عما يمكن أن يحققه من نتائج ملموسة، وعن مدى قوته الاجتماعية.
تنقسم الوثيقة إلى مقدمة وثلاثة محاور. تعلن المقدمة عن المجموعة التي أصدرت الوثيقة، فتعرِّفها كما يلي: «نحن المفوَّضون، في طائفةٍ تلقينية وإبنوية، من ضمائر ناسها، والمرَخَّصون، بحكم أعراف القرون، لتدبير مصيرها حين تصبح المصائر معَلَّقةً بالإجمال على نوع الهوية الأولية، ومعنا نخبةٌ من الوازنين فيها، قد تأسسنا في هيئةٍ آمرة على سبيل «سلطة الضمير الجماعي» للعلويين».
وتعلن هذه «الهيئة الآمرة» عن غايتها بالكلمات التالية: «وإننا باسم حقوقنا المضارَعَة بحقوق إخوة أرضنا السورية والمشترَعَة بها، باسم حفظ أجيالنا القادمة، باسم الحقيقة وباسم الله مُبتدى الحقيقة ومنتهاها، نرسمُ للعالم دستور هويتنا الجديد». هناك إذن هوية جديدة، تعلن عنها الوثيقة أو تتصدى لإنشائها، في هذه اللحظة التاريخية بكل تعقيداتها وسيولتها، لمواجهة متطلباتها السياسية الآنية والتأسيسية. «العلويون وذاتهم» هو عنوان المحور الأول الذي يختص بتعريف العلويين كطائفة قائمة على أساس الرابطة الدينية، فيميّزهم عن كل من السنَّة والشيعة، وينسبهم إلى «الإسلام العرفاني» مقابل «الإسلام الفقهي» للمذهبين المذكورين. وتعلن الوثيقة، بصراحة، رفضها لأي إلحاق للعلوية بالشيعية «في المعتقدات كما في الأعراف والطقوس والمفاهيم»، وتعتبر «جميع الفتاوى» القاضية بهذا الإلحاق «لاغية بالنسبة لنا، واقعة موقع العدم منا» في إحالة محتملة إلى فتوى استصدرها حافظ الأسد من المرجعية الشيعية اللبنانية موسى الصدر، في السنوات الأولى بعد انقلابه العسكري المسمى بـ»الحركة التصحيحية».
يمكن القول إن فتوى الصدر هذه كانت جزءًا من وسائل النظام الأسدي لتأسيس شرعية لحكمه الانقلابي باستخدام الطائفة العلوية. وهكذا كان على الطائفة أن تتنكر لذاتها، مقابل امتلاك العائلة الأسدية المتحدرة منها للكيان السوري، وتحول الطائفة، في الممارسة العملية لعلاقات القوة، إلى «طبقة حاكمة» أو «الأمة الغالبة»، بعد مفصل الثمانينات الدامي بصورة خاصة. ففي مقابل علنية الإسلام السني والمسيحية بطوائفها والدرزية والاسماعيلية، سيتم طمس العلوية في الفضاء العام وكأنها غير موجودة، بمقابل حضورها الطاغي في السلطة، وبخاصة في الجيش وأجهزة القمع (المخابرات) من غير أن يقتصر عليهما. وقد تواطأ النظام و»الأمة المغلوبة» في حرب مطلع الثمانينات، على التظاهر كما لو أن العلوية غير موجودة.
إعلان وثيقة الإصلاح الهوياتي يعني عودة الطائفة العلوية إلى الحضور المباشر في الفضاء العام، مع إلغاء إلحاقها بالمذهب الشيعي، وفصلها عن النظام: «العلويون كانوا موجودين قبل النظام، وسيبقون بعده» كما ينسب تقرير البي بي سي لأحد منشئي الوثيقة. ينبني على هذه الهوية الجديدة التخلي عن وضعية الطبقة الحاكمة أو الأمة الغالبة، لمصلحة إعادة الاعتبار للطائفة والاعتراف بمعتقداتها الدينية الخاصة، شرطاً للاندماج في الاجتماع السوري كطرف بين أطراف مؤسسين لجمهورية جديدة، بعقد اجتماعي يتمثل في دستور قائم على علمانية الدولة وديمقراطية نظامها السياسي. وبخلاف اعتراض معارض علوي معروف على الوثيقة بوصفها، في رأيه، «محاولة للنيل من بشار الأسد الذي لا بديل له، بالنسبة للعلويين، في لحظة تحقيق انتصارات مهمة» يمكن القول إن صدور الوثيقة، في هذه اللحظة من توازنات القوة في الصراع الدائر، إنما هو استثمار استراتيجي لقوة النظام الآنية بهدف الحصول على قبول الطرف الآخر للعلويين كشركاء أنداد في تأسيس الجمهورية الجديدة، في الوقت الذي وضع فيه الأمريكيون والروس ثقلهم لتيسير حل سياسي، في إطار مفاوضات جنيف، تكون محصلته لا غالب ولا مغلوب، ويتم تأطيره في دستور تأسيسي. يحمل المحور الثاني عنوان «العلويون وسوريا» ويتناول علاقة الطائفة بالكيان السوري منذ نشوئه بين 1918 ـ 1920، فيمر على الانتداب الفرنسي الذي قام بعدة محاولات لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية، قبل أن تستقر الحال على سوريا الموحدة المركزية. وترى الوثيقة أن الكيان السوري الذي مر تأسيسه بمراحل عدة وصولاً إلى جلاء الفرنسيين في 1946، إنما قام وتشكل بغير إرادة السوريين. لتكون اللحظة التأسيسية الحالية هي أول عقد اجتماعي بين السوريين أنفسهم من غير تدخل خارجي في تقرير مصيرهم. ألا يذكرنا هذا الحرص في الوثيقة بإلحاح النظام على رفض التدخل الخارجي في المفاوضات؟ مع العلم أن كثافة التدخل الخارجي في تحديد مصير سوريا اليوم تفوق مثيله في القرن الماضي بأضعاف مضاعفة.
لن أتناول، في هذه العجالة، المحور الثالث الذي حمل عنوان «العلويون والله» الذي يسعى إلى التعمق في الجانب الديني للعلوية بهدف التأسيس لعلاقة تعايش سوية بين الأديان والطوائف في سوريا، فهذا ضعيف الصلة بالقراءة السياسية للوثيقة. يلفت النظر في الوثيقة، أخيراً، غياب أي محاسبة أخلاقية لجرائم النظام، الأمر الذي يرجح فكرة أن الوثيقة لا تعبر عن «تمرد علوي على النظام»، كما حاول الإعلام الغربي أن يصورها.
الخلاصة أن الوثيقة التي بين أيدينا تنطوي، سياسياً، على مقايضة تعيد الأمور إلى نصابها، من وجهة نظر منشئيها: الاعتراف بالعلويين كشركاء مؤسسين متساوين مع المكونات الأخرى، مقابل التخلي عن النظام السلالي الأسدي.
يمكن الافتراض أن الادعاء القوي لمنشئي الوثيقة بصدد «التفويض والترخيص» اللذين يتمتعان بهما، هو نتيجة دعم روسي. وهو ما قد يتقاطع، من جهة أخرى، مع إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي عن «فيدرالية شمال سوريا» أو «روج آفا» بهدف المشاركة في مفاوضات جنيف كممثل عن المكون الكردي.
ترى هل تتحول المفاوضات حول دستور جديد، المفترض أن تبدأ قريباً، إلى مفاوضات تأسيسية لعقد اجتماعي جديد، يمثل العلويينَ فيه وفدُ النظام نفسه، ربما مع بعض التعديلات في تركيبه؟
٭ كاتب سوري
بكر صدقي