تعلمنا الكتابة أول مرة، في الكُتاب، على اللوح الذي كنا نمحوه بالصلصال، ونكتب عليه بأقلام القصب المغموسة في الصوف والصمغ (السماق) الأسود. وحين دخلنا المدرسة العمومية، كتبنا على اللوح الأسود بالطباشير أولا، ثم انتقلنا إلى الكتابة على الدفتر بقلم الرصاص ثم بالريشة العريضة الرأس بالعربية، والرقيقة في الفرنسية، إلى أن انتهينا بالكتابة بالقلم الجاف أو الحبر في ما بعد.
مرحلة طويلة جدا، عانينا فيها كثيرا مع الصلصال والصمغ ونجر رؤوس القصب وشقها من الوسط، ثم مع الطباشير الذي يلوث أيادينا ووزراتنا، ثم مع المداد والمنشفة، جاءت بعدنا أجيال، اشتغلت بالعجين وحولته إلى أشكال، وباللوحات السحرية التي يكتب عليها بأقلام ملونة نظيفة. وها هم الرضع الآن من أطفالنا «ينقرون» على الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية ويتنقلون بين أيقوناتها وروابطها بسلاسة ومرونة لا تتأتى في الكثير من الأحيان لكبار السن. وما قلناه عن تعلم الكتابة، نقوله عن القراءة، حيث كانت صناعة الكتاب المدرسي بدائية وصوره باهتة، وقد تطورت الآن كثيرا مع الزمن.
يكمن الفرق بين الجيل السابق والأخير في كون الأول «يمسك» بالأقلام ويتدرج في استعمال أنواعها حتى يمتلك مهارة الخط، ويصبح قادرا على الكتابة. ولهذا السبب كان خطنا بصفة عامة جميلا وموحدا. وحين تظهر لي، عندما أصحح أوراق الامتحان، ورقة متميزة بخطها الواضح والجميل عن باقي الأوراق التي يُكتب كل منها بشكل رديء وغير مقروء، أدرك جيدا أن صاحبها من الجيل القديم، وأن لا علاقة له ممن تربوا على وسائل مختلفة في تعلم الكتابة. أما الجيل الجديد (جيل المستقبل)، فهو «ينقر» على لوحات مفاتيح وعلى روابط تجعله يتعلم بسرعة، وبدون معلم، ويتيح له هذا التطور الذي حصل مع التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل تعلم الأشياء بسرعة فائقة تفوق الأزمان التي كنا نقضيها لتعلم الكتابة أو القراءة.
بين «المسك» و»النقر» مسافة زمانية وإدراكية تتحدد من خلال الانتقال من اليدوي إلى الرقمي. ولا يمكن الاستفادة من الإمكانيات التي توفرها هذه التكنولوجيا، بدون استغلال تلك المسافة بانتهاج تربية جديدة أسميها «التربية الرقمية». وبدون تدخل الأسرة والمؤسسة التعليمية في الوطن العربي لاستغلال هذه الإمكانيات الرقمية في التربية والتعليم، سنترك المجال مفتوحا للأجيال الجديدة من امتلاكها بمنأى عن المدرسة أو الجامعة، وحينها سيكون تعلمها مبنيا على الخطأ والصواب بدون توجيه أو إرشاد يجعل تلك المسافة قابلة للملء بما يجعل الاستفادة من الزمن متاحة وممكنة.
إن التلميذ والطالب في الوطن العربي، وهو يتعلم أو يبحث، يعيش زمانين مختلفين ومتناقضين: زمن التعلم والبحث التقليدي في المؤسسة، وزمن استكشاف ما تقدمه البرمجيات الرقمية من جديد، وهو منفرد وأعزل. وهذه الازدواجية تجعله يرى عالم التعلم التقليدي هو عالم «التحصيل»، بينما عالم الزمن الثاني هو عالم «الترفيه». يبدو ذلك واضحا في كونه منفردا يضع السماعتين على أذنيه، ليس للتعلم أو السعي نحو امتلاك معلومات ومعرفة جديدتين، ولكن للاستماع أو الموسيقى أو مشاهدة مقاطع صورية متحركة أو ممارسة ألعاب الفيديو الرقمية.
إن التربية الرقمية هي الوسيلة الوحيدة لردم الفجوة بين المسك والنقر، وذلك بجعل زمن «النقر» للتعلم والبحث أيضا، وليس للترفيه فقط، باعتباره امتدادا وتطويرا لزمن «المسك». ولعل دخول زمان هذه التربية، لجعل إدراك الامتداد واردا ومتأصلا في الذهن، يبدأ من الروض لتمكين المتعلم من تمثل «الجدية» في التعامل مع ما هو رقمي.
لقد بدأنا تعلم الكتابة بتعلم نجر القصب، وكيفية إمساك القلم، وما كان يصاحب ذلك من عملية «صناعة» الصمغ الذي كنا نكتب به، فنشتري الصمغ من العطار، وننتقي قطعة الصوف من البيت، ونتعلم كيفية المزج بين المكونات في الدواة لتوفير المادة التي نكتب بها. ومعنى ذلك أن تعلم الخط كان مرتبطا بتعلم تقنية صناعة الأداة التي نكتب بها. لكن المتعلم الآن لا يتعلم تقنية استعمال الوظائف التي تزخر بها الوسائط الجديدة. إنه يكتفي بما يحتاج إليه لتشغيلها أولا، وبواسطة الخطأ والصواب، قد يوسع مجال بعض الوظائف التي لا تستثمر كل الإمكانات التي تحتوي عليها هذه الوسائط.
حين أتابع الآن ما يكتب عن لغة التعلم، في مجال التربية والتعليم، من نقاشات إيديولوجية وسياسية، ونطرح أسئلة حول: التعلم بالدارجة أو العربية أو الأمازيغية، ونحن في الزمن الرقمي، أخلص إلى أننا لا نناقش عمق الأشياء التي تسهم في دخولنا زمن التربية الرقمية، وأننا ما نزال نغرق في سجالات عقيمة حول الوسيط اللغوي. ولا نعني بذلك إلا أننا ما نزال نفكر بذهنية المسك، ونحن في زمن النقر؟ بل إننا نعود بذهنية المسك إلى بداية الفتح الإسلامي في المغرب، حيث كان ينبغي طرح الأسئلة حول «اللغة» أو «اللغات» التي ينبغي جعلها وطنية أو رسمية. أما الآن، وعندنا لغة للكتابة صار لها تاريخ، علينا أن نتجاوز نقاشات تعيدنا إلى الوراء، وأن علينا الانتقال إلى الثقافة الرقمية، ولا يكون مبدؤها إلا بامتلاك التكنولوجيا ودخول التربية الرقمية.
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين
موضوع راهني جدا أستاذ سعيد؛ ومقاربتكم قيمة وإجرائية؛ أما سردكم الراصد لتطور الكتابة وأدواتها العتيقة وصولا للنقر؛ فذلك توثيق جميل لمراحل من أعمار وأجيال وحقب غتية بالذكريات؛ ما لفت المقال الانتباه له، وحبذا التفطن لأبعاده؛ هو التناول العلمي أو التقاني لمسألة التربية الرقمية التي تعتبر اليوم من أوكد التربيات اللازمة لناشئتنا ؛ لكن شتان ما بين المعالجة العلمية والطرح المنهجي للأستاذ والمشتغلين بهذا الحقل، وبين الخائضين في اوحال الايديولوجيا والحزبية المقيتة …ستنقدم لامحالة يوم يعلوصوت العلماء والخبراء قعقة المتحزبين حزبية ” كل حزب بمالديهم فرحون”
في البدء علي ان اقر باستمتاعي من فحوى المقال فهو قد نقلنا
–
من زمن ذي طقوس وممارسات لفعل الكتابة كان الجهد سمتها
–
الى آخر مفتوح على المستقبل يعد الترفيه نكهته
–
سؤالي للسيد سعيد هل هذا التواصل الذي ينشأ بين الكاتب
–
وقراءه على امتداد مقالاته يعد من اهداف التربية الرقمية وحسناتها
–
تحياتي
دائما راقي بتحليلاتك و مقالاتك القيمة يا استاذنا العزيز سعيد يقطين.
تحياتي الحارة اليك.