باريس ـ «القدس العربي» من راشد عيسى:
عندما بدأت الثورة في سوريا عام 2011، كان الفنان التشكيلي السوري اللبناني وليد المصري المقيم في باريس منذ ذلك الوقت غارقاً في هموم محض تشكيلية (يعرض حالياً في «غاليري كريم» في عمّان). كان قد أمضى سنوات في العمل على «مجموعة الكرسي»، كان هذا العنصر (الكرسي) موضوعه الأثير والمكرر، وعلى الرغم مما يحمل من دلالات ورموز لم يشأ الفنان مرة أن يحمّله أي دلالة رمزية، فكانت لوحته تتجه إلى التجريد، ومشاغل لونية وبصرية.
الحدث الكبير في بلده ألقى بالفنان بعيداً عن مشاغله المعتادة. «السنوات الثلاث الأولى لم يكن عملي على اللوحة، كان مجرد تفريغ شحنات». يقول الفنان لـ»القدس العربي»، أثناء زيارة إلى مرسمه في باريس، ويضيف «داخل هذا الارتباك ما كان بيدي إلا أن أرسم الجثث، كي أبقى في سوريا». هكذا يفسر الفنان توجهه إلى أسلوب البوستر، عندما رسم مجموعة «المفقودين»، مستوحياً عذابات الغائبين في سجون النظام السوري، أو الذين قضوا على يديه في مظاهرات سلمية عزلاء، أو حين رسم عن مجزرة الكيماوي. بالنسبة له كان ذلك يقع في إطار العمل السياسي الدعائي، فقد وقف مع المتظاهرين في ساحات المدن الفرنسية رافعاً تلك الأعمال. لكن ذلك كله كان أرضاً خصبة كي تولد عناصر وموضوعات جديدة في لوحات الفنان. هكذا مثلاً عاد الكرسي إلى الظهور في بعض أعماله، حاملاً هذه المرة ترميزاً سياسياً واضحاً، عاد الكرسي إلى مكانه في أعلى اللوحة، فيما امتلأ الفراغ بالجثث، التي أخذت شكل أكفان وشرانق، هذه التي ستصبح تالياً العنصر الطاغي في أعماله الأخيرة.
ومن هذه المشاغل «السياسية» ولد العنصر الأبرز لدى الفنان، وهو الشجرة، التي يسميها شجرة النذور. يشرح الفنان كيف جهّز لعمل تركيبي ليعرضه في ساحة المدينة التي يسكنها، خطّط لعرض شجرة يتدلى منها ما يشبه الشرانق، وكان يرمي إلى إحياء ذكرى الشهداء الذين يتساقطون يومياً في سوريا. لم يكتب للعمل التركيبي أن يرى النور، لكنه ولد في لوحة المصري، هكذا باتت الشجرة، وشرانقها، هي ما يشغل فضاء لوحة الفنان، الذي وجد، على خط مواز، ضالته أخيراً في «كارافان- القافلة السورية»، مع مجموعة من الفنانين السوريين، يدورون في مدن أوروبية محمّلين ببعض النتاج الفني السوري، وبمشاريع ولقاءات تعقد هنا وهناك. الكارافان «كان نوعاً من رواية حكاية البلد»، يقول الفنان، ويشعر بالارتياح بأنه اهتدى إلى ما يجعل ما للكرافان للكرافان، وما للمرسم للمرسم. هناك السياسة والهموم التي تلقيها المجزرة المستمرة، وهنا مشاغل الفن واللون، ولو أن تلك المشاغل لم تكن سوى جزء من صلب الحكاية السورية.
غيّرت المأساة السورية في لوحة المصري، صحيح أنه لم يقطع تماماً مع تجربته السابقة، لكنه بات بلا شك أمام عناصر وموضوعات وحتى رموز جديدة، هو الذي لم يكن ليسلّم مفاتيح لوحته بسهولة، بات اليوم أمام متلق يستطيع أن يرى في الشجرة، المهيمنة على فراغ اللوحة، شجرة المزار التي تتدلى منها في الواقع تلك الشرائط والنذور، فيما يكتفي الفنان بأن يدلّي تلك الشرانق، الأكفان، موحياً بحركة كامنة داخل هذه العلاقة الرمزية للموت والولادة والتحوّل.
«أردت من الشجرة أن تكون طاقة إيجابية. أعطتني مبرراً للّون، وعلى الرغم من سيطرة عناصر رمزية فيها (الشرنقة، الكفن) أردت أن يقوم العمل على رجليه بدون هذه الرموز». لكن تلك الرموز ما هي إلا قشور اللوحة، أما عمقها فهو تلك الطبقات المتراكبة من الألوان، التي يعود بعضها إلى عمل سنوات (أرفق معرض الفنان في عمان بفيديوهات توضح تطور العمل الواحد خلال سنوات)، سيدهشك لدى متابعة الفيديو كم العناصر والموضوعات والأمكنة والشخوص أحياناً التي تنام خلف شجرة الشرانق تلك، تماماً كما تخفي الشجرة في ظلها أحلاماً وحكايات وأدعية وأيادي متضرعة. هذا معنى أن تصبح اللوحة بالنسبة للفنان نوعاً من الذاكرة، وحياة يصعب ملاحظتها إلا عبر هذا التوثيق اليومي الفيديوي لمسيرة اللوحة.
هكذا غيّرت سوريا ما بعد الثورة في عمل وليد المصري، وهو يؤمن في النهاية بأن التغيير الذي أصاب اللوحة ليس ميزة شخصية، فهو يؤكد أن الحدث السوري الكبير قد غيّر الجميع على نحو ما. يقول «حتى شبيحة النظام رسموا المجزرة. كلٌ يتباكى على طريقته». ولكن كيف غيّرت باريس، بعد أكثر من ست سنوات من الإقامة فيها؟ يقول «لا شك أنها غيّرت على مستوى اللون. سوريا في مخيلتي هي الموت، المجازر، بينما باريس هي طريقي اليومي إلى البيت، حيث ترى البشر وحركة الحياة، ترى ما يذكّرك بأن هناك طريقة للعيش غير ما يجري في سوريا».
معرضه في عمّان مستمر في «غاليري كريم»
حتى نهاية الشهر الجاري.