تعلم نتائج الاستفتاء الذي نظمته تركيا يوم 16 نيسان(إبريل) وصوت فيه الناخبون الأتراك بنعم على 18 تعديلا دستوريا تغير النظام الرئاسي، مرحلة جديدة في تاريخها. وتمثل ثورة في نظام الحكم يؤشر لقيام الجمهورية الثانية بعد مئة عام تقريبا من ولادة تركيا الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية. وكشفت النتائج عن بلد منقسم بين النخبة التي تريد المضي في النظام الحالي رغم مظاهر قصوره وفشله في التصدي للتحديات الضخمة التي تواجه البلد وبين داعمي الاستفتاء وهم قاعدة حزب العدالة والتنمية الحاكم والمعسكر القومي الذين يرون في النظام الرئاسي ورئيسا قويا مفتاحا لحل مشاكل تركيا المتراكمة وطريقا لتعافي الاقتصاد الذي تأثر خلال السنوات الماضية بتزايد أعداد اللاجئين والحرب الأهلية السورية واندلاع المواجهات مع الانفصاليين الأكراد في جنوب-شرق تركيا وانقلاب تموز (يوليو) 2016 ولا ننسى خطر تنظيم الدولة. وتعرض قرار اللجنة العليا للانتخابات المصادقة على نتيجة 51.4٪ لمعسكر «نعم» مقابل 48.5٪ لمعسكر «لا» لاعتراضات من المعارضة التي قالت إن هناك تجاوزات حدثت في التصويت حيث تم إدخال أوراق التصويت قبل ختمها من المراقبين الانتخابيين. وجاءت بعد ذلك انتقادات المراقبين من الاتحاد الأوروبي الذين قالوا إن الانتخابات شابتها مظاهر قصور ولم تكن متوازنة من ناحية منح معسكر نعم ولا الفرص للتعبير عن حملاتهم ومواقفهم في الإعلام واتهموا الدولة بتنظيم انتخابات في ظل قوانين الطوارئ التي فرضت بعد الانقلاب الفاشل وعمليات التطهير والسجن والعزل للمشبته بعلاقتهم بالمحاولة الانقلابية أو جماعة غولن.
ورد الرئيس التركي أردوغان بمطالبة المراقبين من منظمة الأمن الأوروبي التزام حدودهم. وفي مقابلة مع قناة «الجزيرة» 19/4/2017 اتهم المنظمة بالتحيز وقال إن أحد أفرادها شارك في تظاهرات لدعم حزب العمال الكردستاني (بي بي كي) ورفع علم الجماعة التي تعتبرها تركيا والولايات المتحدة إرهابية فيما شارك آخر بحملات «لا» للتعديلات الدستورية. وانتقد التضليل الإعلامي والحملات المسيئة التي تصف ما حدث بأنه طريق للديكتاتورية وتغيير للنظام. وقال إن «تركيا حددت نظامها عام 1923، بعد الآن لن يتغير أي شيء، ومنذ عام 1923 لم يتغير شيء في نظام الحكم، فقد كانت هناك عقبات داخل النظام، وعلينا التغلب على هذه العقبات لكي تكبر تركيا بسرعة». وجدد أردوغان هجومه على الاتحاد الأوروبي الذي وصفه بأنه يمارس النازية والفاشية ضد بلاده.
وشارك الإعلام الأوروبي في التحشيد مع «لا» وكتبت صحيفة ألمانية على صفحتها الأولى «لو كان اتاتورك حيا، لصوت بلا». وتعبر التصريحات التي أطلقها أردوغان ضد أوروبا قبل وبعد التصويت عن أزمة حقيقية ولها امتدادات على طلب العضوية الذي تقدمت به تركيا منذ عقد أو يزيد وظلت بروكسل تماطل به وتضع العراقيل أمامه. وتتهم تركيا الاتحاد الأوروبي بالتراجع عن الوفاء بشروط الاتفاق حول اللاجئين. ذلك أن تركيا ترغب بدخول مواطنيها أوروبا بدون تأشيرات. ورغم التزام أنقرة بما اتفق عليه من ناحية وقف تدفق اللاجئين إلا ان الاتحاد الأوروبي واصل نقده لقوانين الطوارئ وملاحقة الحكومة لأتباع غولن.
واتسمت لهجة أردوغان في تصريحاته ومقابلاته بالمرارة، ففي مقابلة مع شبكة «سي أن أن (19/4/2017) « قال إن بلاده تركت تتنظر على أبواب الاتحاد الأوروبي 54 عاما. وسخر من كل من قال إن نتائج الاستفتاء جعلته ديكتاتورا قائلا «في حال وجود الديكتاتورية فأنت لست بحاجة لاستفتاء». وبالنسبة لأردوغان فالاستفتاء خطوة عظيمة في تاريخ البلاد تجعلها قوية ولكنه يعترف أن الحرب على بلاده واسعة وستزيد شراسة ليس على الأقل من المعارضة.
معجب وكاره
ويظهر كل هذا أن أعداء أردوغان كثر من العلمانيين واليساريين والأكراد الذين صوتوا كلهم بلا. ويرى سونير جاغباتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى بمقال نشره موقع المعهد (18/4/2017) أن أزمة تركيا بعد الاستفتاء نابعة من انقسام الشعب بين معجب وكاره لأردوغان. ويحمل الكاتب الرئيس مسؤولية هذا الاستقطاب لتبنيه سياسة شعبوية منذ صعوده إلى سدة الحكم في البلاد. ويقول جاغباتاي إن الرئيس شوه سمعة شريحة من الناخبين تضم القوى التي ذكرناها أعلاه على حساب تقوية قاعدته الإسلامية اليمينية القومية. ولا يرى الكاتب تصالحا قريبا بين المعسكرين بسبب الإستراتيجية الانتخابية التي تبناها أردوغان. ولا رجعة على ما يبدو عن نتائج الاستفتاء وستمضي تركيا في طريقها نحو التغيير وتشكيل البلاد على صورة الرجل القوي تماما كما فعل أتاتورك العلماني من قبل. وعلى خلاف رؤية مؤسس تركيا الحديثة التي حاول تخليصها من إرثها العثماني والإسلامي والتحالف مع المفاهيم القيمية الغربية يريد أردوغان حسب تحليل جاغباتاي العودة بتركيا إلى سياقها الشرق أوسطي، محافظة وإسلامية. إلا أن الرئيس أردوغان يواجه مشكلة لأن تركيا لم يعد يحكمها جنرال عسكري كأتاتورك فهي بلد ديمقراطي منقسم بين مؤيد ومعارض. ولأن تركيا تغيرت وأصبحت أكثر تنوعا من الناحية الإثنية والدينية والثقافية فلن يتمكن أردوغان من فرض رؤية الإسلام السياسي على المجتمع. وبدا الإنقسام واضحا بين الطبقة المتوسطة التي منحها أردوغان صوتا، ذلك أنه لم ينس جذوره في الأحياء الفقيرة التي نشأ فيها، وبين النخب المدينية التي صوتت بلا مثل مدينته اسطنبول والعاصمة أنقرة وأزمير. وتظل هذه المدن والتجمعات الصناعية قريبة من المبادئ العلمانية والديمقراطية الموالية للغرب، وسيواجه أردوغان مشكلة إلا إذا حاول تطويعها بالقوة مما يعني تحوله لديكتاتور ومستبد أو «سلطان جديد» كما وصفته الكثير من التعليقات الإعلامية. واللافت أن القوى العلمانية تدافع عن إرث اتاتوركي مات إلا أن الاستفتاء حسب جاغباتاي يعبد الطريق أمام «أتاتورك جديد» راغب بفرض الصورة الإسلامية المحافظة على تركيا. ولأن القاعدة التي يستند عليها أردوغان موالية له ومعجبة لحد العبادة فمن الصعب على المعارضة اليوم مواجهة أردوغان الذي يواجه امتحانا صعبا في عام 2019 كي يفوز ويطبق تعديلاته الدستورية التي قسمت بلاده. ويعتقد الكثيرون أن أمامه فرصة لحكم تركا حتى عام 2029 أي بعد سنوات من المئوية الأولى على ولادة تركيا الحديثة.
مشاكل الخارج
وإذا تركنا المشاكل الداخلية فأثر الاستفتاء سيكون واضحا على دورها الإقليمي والخارجي، خاصة فيما يتعلق بملف مكافحة تنظيم الدولة. ولهذا يرى محللون أن قرار الرئيس الأمريكي ترامب الإتصال مهنئا للرئيس التركي هي تعبير عن حاجته لمساعدة تركيا في الحرب على الجهاديين. وجاءت المكالمة رغم التصريحات الناقدة من وزارة الخارجية للاستفتاء. ونقلت نيكول غاوتي المراسلة في شؤون الأمن القومي في «سي أن أن» (19/4/2017) عن مسؤول قوله إن «الرئيس واع» بالميول الديكتاتورية لأردوغان «ومن جانب آخر فتركيا تعتبر حليفا مهما للناتو في مجال مكافحة الإرهاب. ويعتقد أنه في ظل الدوائر المنتافسة يريد تركيا أن تكون معنا في هذه المعركة وترك العناصر الأخرى في إدارته التعليق على الاستفتاء». ومع ذلك فتهنئة الرئيس ودعوته لزيارة واشنطن تعبر عن تقارب يعكس الإنقسام الأمريكي- الأوروبي بشأن التعامل مع تركيا التي تعتبر حليفا مهما في محاولته التصدي لتنظيم «الدولة».
نهاية التكيف
وهناك بعد مهم في نتائج يوم الأحد الماضي وهي ابتعاد تركيا عن الغرب. وكما كتب وزير الخارجية البريطاني السابق ويليام هيغ في ديلي تلغراف (17/4/2017) تتحمل أوروبا جزءا من مسؤولية خسارة الجزء الشرقي الأقرب إليها وبوابتها على الشرق وآسيا بعدما خسرت بوابتها على أمريكا العام الماضي، في إشارة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إلا أن فوز أردوغان «المر» حسب صحيفة «فايننشال تايمز»(17/4/2017) «يجعله سلطانا جديدا يحمل كل معالم السلطة المطلقة. ولأنه يحتاج لتحقيق فوز حاسم في عام 2019 كي يحصل على السلطات الجديدة فسيظل في مزاج المواجهة لا المصالحة ولن يتبنى مدخلا براغماتيا وينهي حملات التطهير ويستأنف المفاوضات مع الأكراد ويركز انتباهه على الإصلاحات الاقتصادية التي طال انتظارها». وهذا سيزيد من حجم المعضلة التي تواجه شركاء أوروبا الأوروبيين على ما تقول الصحيفة. ويجب عليهم اتخاذ المبادرات وإعادة تأطير التعاملات المهمة مع أنقرة خاصة المتعلقة بالتجارة والأمن والهجرة. كما يجب على القادة الأوروبيين أن لا يتخلو عمن تقول إنهم نسبة النصف تقريبا الذين صوتوا بلا ويتطلعون إلى أوروبا لحماية المبادئ الديمقراطية التركية. ووصفت صحيفة «الغارديان» (17/4/2017) النتائج بقولها إن تركيا «دخلت فصلا مثيرا للخوف ولا يمكن التكهن بمداه» كما أن تطبيق التعديلات الدستورية يعني إعادة تشكيل تركيا كـ «سلطنة» بعد قرن تقريبا من ولادتها. وسيترك التحول في النظام السياسي آثاره العميقة على علاقة تركيا مع أوروبا وحلف الناتو في وقت يعتبر التعاون في قضايا الأمن والهجرة حيويا. وترى أن التحول نحو الاستبداد قد اكتمل وتذكر بما قاله أردوغان مرة «المساجد هي ثكناتنا، والقباب خوذنا والمنابر رماحنا والمؤمنون هم جنودنا» رغم تبنيه سياسة مؤيدة للغرب. وفي بحثها عن التحولات الجديدة في تركيا ترى أن التعطش للسلطة مضافا إليه الخوف والرهاب وتراجع دائرة المستشارين لعبت دورا. فيما أسهمت الاضطرابات في الشرق الأوسط في تفكك النظام، ذلك أن تركيا اعتقدت أن بإمكانها التحول إلى نموذج للمنطقة خاصة بعد ثورات الربيع العربي عام 2011. واعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» (17/4/2017) أن الديمقراطية خسرت في تركيا وكتبت تقول إن العالم سيتساءل «إن كان بإمكان أمة خدمت ولعقود كجسر حيوي بين أوروبا والعالم الإسلامي العيش مستقرة وبمستقبل مزدهر في ظل رجل لا يحترم البنية الديمقراطية والقيم؟».
إبراهيم درويش