ظهرت حركة الإصلاح العثماني في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. وتبنت هذه الحركة في البداية العمل على تعزيز وتطوير قدرات المؤسسة العسكرية وبسط سيطرة الحكومة المركزية، بالإضافة إلى تحسين الإجراءات الإدارية والقانونية داخل الدولة العثمانية. وبحلول نهاية القرن كانت نتائج هذا البرنامج الإصلاحي قد أخذت تؤتي ثمارها بشكل ملموس لدى شرائح وأطياف واسعة من رعايا الدولة العثمانيـــــة، خاصة تلك التي كانت تعاني من حالة من التهميــــش والإهمال في بعض الجوانب، مثل الجانب التعليمي.
ففي البداية كان الجيــــش يحتاج إلى نمط جديد من المدارس تقدم تعليما معلمنا جديدا، كمــــا أنه يكون مفتوحا أمام جميع رعايا العثمانيين ومن دون تمييز قائم على الجنس أو الدين، ولكن بعد تأسيس مدارس الهندسة العسكرية ثم المدارس الطبية الأولى، أخذت تتأسس مدارس الإدارة والقانون والألسن، وبعد ذلك سلسلة من المدارس الابتدائية والثانوية الحكومية (مكتب عنبر في دمشق مثلا)، ما أدى إلى نشوء علاقة جديدة بالمعرفة ونمط جديد من الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين والإداريين داخل الحياة العثمانية.
وقد استمرت هذه الجهود في زمن السلطان عبد الحميد الثاني الذي سعى إلى توسيع مجال فتح المدارس العسكرية، كما نسبت إليه فكرة إنشاء مدارس لأبناء المحافظات والمناطق الحدودية (مدرسة عشيروت) التي هدف من خلالها إلى تعليم أبناء زعماء القبائل البدوية والكردية والبلقانية، كأداة سياسية لكسب ولاء القبائل.
في هذا السياق، يرى يوجين روغان في دراسته «مدرسة العشائر في اسطنبول» أنه عند تفحص القوائم التي اعدِّت باسماء الطلاب الوافدين إلى المدرسة من تلك المناطق القبائلية، فإن الرقم (86) الذي يمثل عدد طلاب المدرسة، يكشف لنا كيف واجه المسؤولون المحليون في الولايات العثمانية صعوبات جمة في إقناع النخب العشائرية بفوائد إرسال ابنائهم إلى إسطنبول، كما اتسمت ظروف العيش داخل هذه المدرسة بالقسوة. فقد كان قصر اسما سلطان حيث مقر المدرسة يتسم بالرطوبة الشديدة، وزادت الأمور سوءا بفعل عدم كفاية الملابس والطعام، كما قُيّد الوصول إلى العالم الخارجي على نحو خاص بالنسبة للتلاميذ. وإزاء هذه القيود المستحكمة، تذكر بعض المصادر والتقارير الدورية التي سجلت داخل المدرسة، أن الطلاب غالبا ما عبروا عن غضبهم من هذه الأحوال من خلال التمرد على قرارات المسؤولين داخل المدرسة.
وعموما، فقد بدت تجربة مدرسة العشائر أكثر تنفيرا وأقل جاذبية لدى ابناء العشائر اليافعين، ويفسر يوجين هذا الأمر بتشابه طبيعة هذه المدارس مع شكل المدارس الخاصة البريطانية، التي زاوجت ما بين البعد الأكاديميي والجهد الجسدي بهدف تكريس قيم النخب الحاكمة، وهو ما أثبتته لاحقا تجربة وقساوة العيش داخل مدرسة العشائر. فالأدلة المتاحة تشير بقوة إلى أن هذه التجربة كانت قادرة على إيجاد وخلق ولاء مستمر إزاء الخدمة العسكرية والمدنية، كما أن معظم الخريجيين كان لديهم سجل في استمرار العمل حتى انهيار الدولة العثمانية، بل امتد في بعض الحالات إلى العهد الجمهوري التركي وإلى الدول الجديدة التي تشكلت بعيد الحرب العالمية الأولى.
ولعل هذه النتيجة التي توصل إليها يوجين، هو ما شكل المقاربة أو المدخل الأساسي الذي اعتمده المؤرخ الأمريكي مايكل برفنس أثناء إعداد أطروحته للدكتوراه تحت عنوان «الثورة السورية الوطنية وتنامي القومية العربية» (ترجمت للعربية عن دار قدمس) التي تطرق فيها لأحداث الثورة السورية الوطنية الكبرى عام 1925 التي قادها سلطان باشا الأطرش برفقة عدد من زملائه من خريجي المدارس العثمانية الجديدة.
يرى برفنس أنه رغم أن سياسات جذب سكان الريف كانت بطيئة في البداية، إلا أنه مع حلول العقد الأول من القرن العشرين، كانت المدارس الثانوية في دمشق للخدمة العسكرية أو المدنية في تزايد. وقد تعلم في هذه المدارس عدد كبير من الشبان السوريين، الذين قادوا بعد ذلك بسنوات أول حراك اجتماعي وثوري ضد القوات الفرنسية 1925، مساهمين بذلك في تشكيل المتخيل السياسي السوري الجديد بعد انهيار الدولة العثمانية. واعتمادا على رؤية بندكت أندرسن حول الجماعات المتخيلة، التي ترى أن مختلف القوى التاريخية خلقت متخيلا سياسيا واجتماعيا جديدا بناء على تجارب مشتركة حصلت بين الناس، يعتقد برفنس أن أحداث الثورة السورية الكبرى 1925 كانت بمثابة التجربة التاريخية التي شكلت مفاهيم متخيلة جديدة للهوية السورية العربية بعد مرحلة الانتداب الفرنسي، وأن من قاد هذه التجربة الجديدة مجموعة من الضباط السوريين الذين درسوا في المدارس العسكرية العثمانية وخدموا لاحقا داخل الجيش العثماني، والمنحدرين في غالبهم من خلفيات ريفية.
نلحظ مثلا، أنه إضافة إلى سلطان باشا الأطرش (قائد الثورة السورية) الذي خدم داخل الجيش العثماني في البلقان من عام 1910-1912 وتلقى هناك تعليما عسكريا، كان هناك عدد كبير من أبناء مشايخ الدروز والبدو وحماه ودير الزور وغيرهم من أبناء المناطق السورية، ممن درسوا في المدارس الثانوية العسكرية المدعومة آنذاك من قبل الدولة العثمانية المعروفة باسم «مكتب الإعدادية العسكرية»، والتي كانت بعيدة نسبيا خارج أسوار مدينة دمشق في جوار حي البرامكة وبالقرب من ثكنة عسكرية وساحة استعراض. وهناك تعارف هؤلاء الشبان على بعضهم بعضا وأسسوا لعلاقات طويلة حتى بعد تركهم المدرسة والانتقال إلى مدرسة عشيروت أو البدء بالخدمة العسكرية، وهو الأمر الذي يأتي على ذكره سعيد العاص (أحد قادة ثورة 1925) في مذكراته «صفحة من الأيام الحمراء»، إذ أشار إلى أن لقاءه برمضان شلاش (ابن عشيرة البوسرايا التي تعيش بالقرب من مدينة دير الزور، والمشارك في أحداث 1925) تم داخل المدرسة القبلية ومن ثم عادت صداقتهم وظهرت في سنة 1925 عندما جاء رمضان شلاش إلى ريف دمشق لينضم إلى الأطرش في الكفاح ضد الفرنسيين.
كما كان محمد عز الدين الحلبي شابا آخر من الذين استفادوا من التعليم العسكري الحكومي. وقد ولد عز الدين عام 1889 في بلدة الشهباء من جبل حوران حيث كان ينتمي إلى عائلة مشيخية درزية. درس في المدرسة الحربية في اسطنبول، وتخرج فيها في سن مبكرة. وبعد سنة 1905 خدم في الجيش العثماني الخامس ومقره دمشق، وفي سنة 1909 تولى قيادة فرقة فرسان احتياطية في دوما شمال غرب دمشق على طريق حمص، وفي سنة 1912 استقال من منصبه احتجاجا على الإعدامات التي قامت بها وزارة الدفاع العثمانية في جبل حوران. وأمضى عز الدين سنين الحرب العالمية الأولى قائمقاما على محافة الزبداني. وأصبح بعد الحرب موظفا في حكومة الأمير فيصل وحارب الغزو الفرنسي للأراضي السورية في معركة ميسلون. وعندما احتلت فرنسا سوريا واستعمرتها عاد محمد عز الدين إلى جبل حوران ليصبح مندوبا في المجلس النيابي في السويداء ولاحقا قائدا للثوار في ريف حوران بين عامي 1925 و1927 بفعالية كبيرة.
وكذلك هو الحال بالنسبة للضابط السوري فوزي قاوقجي الذي احتل بقوة من مئات الثوار مدينة حماه خلال أحداث 1925. وكان قاوقجي ضابطا سابقا في الجيش العثماني وخريج الأكاديمية العسكرية العثمانية. ولد القاوقجي في ظروف متواضعة في طرابلس فيما أصبح يعرف بلبنان الكبرى عام 1890، وقد درس في الأكاديمية العسكرية العثمانية في إسطنبول، وتخرج لاحقا في الحربية سنة 1912 ثم ذهب فورا إلى ليبيا لمحاربة الغزو الإيطالي لتلك المقاطعة العثمانية. وخلال حرب 1914– 1918 بقي القاوقجي يقاتل مع القوات العثمانية، ثم انضم إلى الهاشميين، رغم أنه بقي مقتنعا بأن الحكم العثماني، بما فيه من ظلم، كان أفضل بكثير من التقسيم والسيطرة الامبريالية الأوروبية.
وبالاستفادة من السرد السابق للتاريخ التعليمي والمهني لبعض الشخصيات الأساسية التي شاركت في ثورة 1925، يرى برفنس أنه رغم صعوبة معرفة التجارب التي تشارك فيها هؤلاء الأشخاص في اسطنبول وفي أرض المعركة خلال الحرب العالمية الأولى، ورغم أن هؤلاء الشباب قد التقوا في سياق المشروع العثماني للتعليم والاستيعاب الذي تشكل بالأساس لخدمة الدولة العثمانية، إلا أنه مما لا شك فيه أن تجربتهم السابقة في المدارس العثمانية العسكرية كان لها دور أساسي بعد ذلك بسنوات في ولادة أفكار ومخيال سوري جديد يتمحور حول دولة سورية مستقلة ومن الممكن تحقيقها. لأنه عند اندلاع أحداث المواجهة مع الفرنسيين، كان معظم قادتها في منتصف العقد الثالث من عمرهم، كما كان العديد منهم يعرف بعضه بعضا منذ سن المراهقة. فقد التقوا سابقا في المدرسة الحربية في دمشق، وفي المدرسة القبلية في إسطنبول أو في المعارك في ليبيا ومنطقة البلقان وميسلون. ومن المحتمل جدا أن أناسا مثل هؤلاء ومن خلفية متواضعة كانوا قادرين على التواصل وتنظيم المقاومة وتأسيس تجربة مشتركة، مما ساهم في تشكيل متخيل مجتمعي سوري جديد يتأسس على قاعدة أساسها التحرر من النظام الانتدابي الفرنسي.
ورغم أن طريقة تصورهم للمجتمع بقيت مختلفة بوضوح بين شخص وآخر، إلا أن ما كان مشتركا بينهم هو مفهوم العضوية وليس ما تعنيه العضوية، أي كانت لديهم فكرة حول الهوية الوطنية (أمة سورية عربية ضد الفرنسيين) كإطار جامع، لكنها كانت تختلف من مكان لآخر وفقا للتواريخ المحلية المختلفة للمناطق السورية، من دون أن يقلل ذلك من مصداقية هذه الرؤية، خاصة أن الفكرة الوحدوية للهوية الوطنية – كما يرى برفنس- ليست بالأساس سوى فكرة موجهة نخبويا. فعندما اجتمع الثوار معا لمقاومة الاستعمار الفرنسي لم يكن لديهم مفاهيم متطابقة حول هويتهم الوطنية، ولكن ما كان مشتركا مهما بينهم هو مفهوم الأمة السورية المستقلة، وليس كيف يكون شكل هذه الأمة في المستقبل ودور المناطق المحلية داخلها.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو